الجمعة، 21 سبتمبر 2012

منطقٌ مقلوبٌ ... تراها وأراها !


منطقٌ مقلوبٌ


لاَ تَلُمْنيِ إِنْ تَرَانيِ  مُتْـعَبَا
                     مِنْ حَيَاةٍ  قَدْ  تَرَاهَا عَـجَبَا
وَأَرَاهَا لاَ تُـسَاوِي  جُنْدُبَا
                     أَوْ تَرَاهَا حِيَن تُعْطِي مَكْسَبَا
وَأَرَاهَا مِـثْلَ  جُحْرٍ خَـرِبَ
                     أَوْ سَرَابًا  إِنْ  دَنَوْنَا ذَهَـبَا
قَدْ تَرَى فيِ الشَّمْسِ دِفْئًا وُهِبَ
                     وَأَرَاهَا حِـينَ تَبْدُو لَـهَبَا
قَدْ تَرَى الْفَـجْرَ ضـِيَاءً قَرُبَ
                     وَأَرَاهُ  مِثْلَ عُـمْرٍ غَـرَبَا

زُرْ بِلاَدِي تَـرَفِيهَا العَجَبَ

                     مَنْطِقُ  الأَشْيَاءِ  فِيهَا  قُـلِبَا
                *   *   *
زُرْ بِلاَدِي تَـرَفِيهَا العَـجَبَ
                     كُلُّ شَيْءٍ  عِنْدَنَا  قَدْ ضُرِبَا
صَارَتِ الأَخْلاَقُ  شَرًّا جُلِبَ
                     بَلْ هِيَ  الْعَارُ  عَلَيْنَا كُـتِبَا
وَالْبرَيءُ !  صَارَ فِينَا مُـذْنِبَا     
وَغَدَا  الطَّاهِرُ  مِنَّا  جُـنُبَا
وَاسْتَحَالَ الصِّدْقُ هُوَّ الْكَذِ بَ
                     وَالأَمِينُ 
!  خَائِنًا  قَدْ حُسِبَا
وَالشَّرِيفُ !  عِنْدَ هُمْ مَنْ نهَبَ
                     وَالأَصِيلُ !  فِيهِمُ مَنْ  أَذْنَبَا     

                     *   *   *

 زُرْ بِلاَدِي تَـرَفِيهَا العَـجَبَ

                     مَنْطِقُ  الأَشْيَاءِ فِينَا انْقَـلَبَا
قَلَّدُونيِ إِنْ أَسَـأْتُ الأَدَبَ
                     بَارَكُـونيِ إِنْ رَأُونيِ  قُـلَّبَا
هَنَّأُونيِ إِنْ  رَكِبْتُ الحَـدَبَ
                     أَيَّـدُونيِ إِنْ رَأُونيِ مُـرْهِبَا
صَارَ مَنْ  نَاحَ  لَدَيْنَا  أَطْرَبَ
                     صَارَ مَنْ أَوْجَزَ فِينَا أَطْـنَبَا
صَارَ مَنْ جَدَّ كَمَنَ  قَدْ لَعِبَ
                     صَارَ مَنْ حَلَّ كَمَنْ قَدْ هَرِبَا.
        *    *    * 

زُرْ بِلاَدِي تَـرَفِيهَا العَـجَبَ

                     وَانْسَ إِنْ كُنْتَ قَرَأْتَ الْكُتُبَا
أَفَيُغْنِيكَ عَنِ الْعَـيْنِ الـنَّبَا
                     أَوْ يُفِيدُ السَّمْعُ  مَنْ قَدْ جَرَّبَا
قَدْ يَصِيرُ الرِّيشُ يَوْمًا حَصَبَا
                     أَوْ يَصِيرُ الشَّوْكُ يَـوْمًا زَغَبَا    
قَدْ يَصِيرُ الرَّأْسُ  يَـوْمًا ذَنَبَا
                     أَوْ يَصِيرُ الْحَبُّ  يَوْمًا قِـبَبَا
قَدْ يَصِيرُ التِّينُ  يَوْمًا  عِنَبَا
                     أَوْ يَصِيرُ الطِّينُ يَـوْمًا ذَهَبَا
لَكِنِ الحَقُّ سَيَبْقَى الأَغْلَبَ
                     وَإِنِ الْبَاطِلُ فِـينَا  قَبْـقَبَا

                           الشريف عمر ميهوبي
     

عريف من عرفاء هذه الأمة ... مصلح وإصلاح


          بسم الله الرحمن الرحيم


               عريف من عرفاء هذه الأمة


  الشيخ المصلح والقاضي/محمد الدراجي ميهوبي


  أحد رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين


            (1906 - 1963م)


 ما أسهل أن نبني بلدا،وما أصعب أن نبني ولدا، فكيف ببناء لا يستثني أحدا.


        سيدي الشيخ كما كنت دوما في صغري أردِّد، ولم أكن أدري إلا في كبري أنّك ممجد، فأقبلت لمعرفة أخبارك ولم أتردد، لعلّي أراك في نفسي تتجدد، أو أراك في شخصي تتمدد، ولكنّي وجدت نفسي أمام خصال فيك تتعدد، فبأيّها أصفك أو استشهد، أبالحمد؟ فأنت وارثه منذ كنت تتمهد. فأنت من عائلة حمدها في كل جيل يتجدد، منذ النبي محمد (ص)، إلى جدك ابن القاسم أحمد، إلى والدك المبارك محمد، إليك، يا من في هؤلاء تتمدد، فالحمد فيك غير مكتسب بل أصل تولّد.
أم أصفك بالعلم؟ فأنت في قومك عالم أوحد، أم أصفك بالمروءة والشجاعة؟ فأنت فيها تتفرد، أم أصفك بالجهاد؟ فجهادك في الظلم والظالمين تعدّد، رفعت رايتين للجهاد ولم تترد، رفعت راية الجهاد الأكبر وكلك اشتعال وتوقد، تبيد الظّلام في ربوع الأوراس وبالظالمين تتوعّد، ورفعت راية الجهاد الأصغر وأقسمت ألا تعود حتى تنتصر أو تستشهد، فكان الظلام على يديك وأيدي أمثالك قد تبدّد، وكان النّصر على يديك وأيدي العظماء أمثالك قد تولّد، فمن أنت يا من على الظّلم تمرّد؟
أنت يا ابن فاطمة ومحمد، أنت من اسمه في ربوع بلادي تردّد، أنت من سمِّيت باسم سيّد المرسلين أحمد، ليستقيم حالك وبهديه تحيا وتسعد، ولتغرف من معينه وتتزوّد، ولتقيم الذِّكر وتتهجّد، وتجمع الصفوف وتوحِّد، وتكون عونا على الحق ترعى وتتعهّد، وتدحض قلاع الشرك والمشركين تكبِّد، فمن أنت يا محمد؟
         في ليلة من ليالي السّدم من سنة 1906م، فتحت الحضنة عينها ولم تنم، لتخرج من خضرائها تبتسم، فاستقبلتك الدّنيا وليلنا لم ينصرم، فتحت عينيك في قرية تكوَّن مجدها منذ القدم، وفي أولاد سيدي أحمد بلقاسم وضعت أوّل القدم، فكنتَ لأبيك كالشّمعة في العتم، أب زاده الكفاف والعفاف، لا يملك من متاع الدّنيا سوى مصحف ولحاف، ودواة وقلم، وترتيل للقرآن زينه النغم. ينبعث من زوايا بيت محتشم، يشّنف سمعك ويجري في عروقك مجرى الدّم، ومن هنا بدأت الصّورة ترتسم، فورثت عن أبيك المصحف والدواة والقلم، ونبغت في حفظ القرآن ولم تبلغ الحلم، ولا عجب فمن شابه أباه فما ظلم، فوالدك كان في قومنا كالعلم، ويشهد المصحف الشريف الذي خطه بيده الكريمة والقلم، فهو رمز في حياتنا محفوظ في قلوبنا، وبغيره لم يكن الإرث ليتم.
         وبعد أن أعطى الوالد الولد، ما يكفيه مددا، شدّ ساعده ومدّ إليه اليد، متمنيا له النجاح والسؤدد. ودّع حينها محمد بن الخامسة عشر الأهل والبلد، وشدّ الرحال إلى طولقة منحردا، جاعلا زاويتها مقصدا، فظل عاكفا يتعبّد في محرابها سنتين أضاف إليهما أربعا، فكانت لرسوِّه مرفأ، ولحرمانه ملجأ، ولدفئه منبعا، ولأنسه مربعا، ولزاده مرتعا، ولفكره مرجعا. رام انتسابها، فطرق أبوابها، ودرج أعتابها وألِف اجتذابها، وقرأ كتابها وحاز لبابها، وعرف إعرابها، وملأ حيّزا من رحابها، فلا هي ضنّت بصحبتها، ولا هو ملّ اقترابها، فما تحصيله العلمي إلا ثمرة من اكتسابها.
         وبعد أن اتّضحت المعالم شدّ الرحال، وبالجامع الأخضر ألقى عصا الترحال، حيث التحق بجمعية العلماء تحدوه الآمال، وصدق معهم عهدا لذي العزة والجلال، أن يلتزم بالطريق القويم دون إبدال، وأن يكون على أعداء الأمة شديد المِحال، مهما كانت الظروف والأحوال، فالتحم بالجمعية ذات السّنا والجلال، ولامس تلألأ ابن باديس بين الرفاق فأبهرته الخصال، ورأى بعينيه كريم الخلال، فأقبل يتزود في كل مجال، فما أعظم هؤلاء الرجال:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواتَبْدِيلاً }الأحزاب23.
       وهنا فتحت له الأبواب، وتمكن من الانتساب، وتهيأت له الأسباب فتشجع على التحصيل والاكتساب؛ ففي الجامع الأخضر ارتسمت الخطى، وتشكلت الرؤى، وتحققت المنى، استقبله طالبا، وشرف بالخروج منه بعد أربع سنوات معلما، فاختاره ابن باديس ليقوم بمهمة التدريس، في جامع سيدي قموش بقسنطينة، وقد دام ذلك ثلاث سنوات، كما عين عريفا على الطلبة الوافدين من منطقة الحضنة(أولاد دراج). وضعت فيه الجمعية ثقتها فكان أهلا لتلك الثقة، فاجتهد في رد بعض من فضائلها وجزء من جمائلها.
          وجاء يوم الفصل إن يوم الفصل كان ميقاتا، فالنهوض بالأمة وإعدادها يتعدى الساعد واليد، فما أسهل أن نبني بلدا، وما أصعب أن نبني ولدا، فكيف ببناء لا يستثني أحدا. أية مهمة أنيطت بعرفاء هذه الأمة، فهل كانوا حقا عرفاء بمواطن الداء في جسد أمة أصابها البلى، أمة كليمة، ذاكرتها عقيمة، تعاني السقم وتشتكي العقم، حالها آنذاك كحال شخص مشلول، فاقد الذاكرة، فلا قوة تدفعه إلى الحراك، ولا ذاكرة تعينه على الإدراك.
          قدرك يا محمد أن يواكب ميلادك أحداثا وطنية، وأحداثا كونية، لترضع مع الزمان لبانه، قدرك أن تفتح عينيك على الحياة، فإذا بمستعمر على صدر أمتك جاثم، وعدو مكابر غاشم، قدرك أن تفتح عينيك على الحياة فإذا الحياة مغتصبة، وعلى أرض فإذا هي مستلبة وعلى وطن أطرافه ملتهبة، وعلى أمة دماؤها منسكبة، تنتظر ما يلوح في الأفق، من انبلاج الفجر إلى الشفق، ترجو من أبنائها ما يرجوه المدلج الحيران في الغسق، لايحمل إلا دقات قلب مشفق، يستعيذ برب الفلق، من شر ليل محدق، لا يأمل إلا في غد مشرق. فما أشبه اليوم بالبارحة مع الفارق.
       وبعد أن تسلحت بسلاح العلم والمعرفة حملت هموم وطن جريح، وأمة صار وجودها في مهب الريح، فانبريت لمهمة الجهادين، تحمل قلما وبندقية، وراية وطنية ولسانا لا يكل عن محاربة الجهل والأمية، وبعث الروح الوطنية، تحارب عدوين؛ عدو الإنسان، وعدو الأوطان، فأما عدو الإنسان فهو الجهل وروافده، وكل ما ينضوي تحت شعار ((اعتقد ولا تنتقد)) الذي جعل الإستبعاد سمتا معلوما، والاستعمار قدرا محتوما وهنا المهمة لا تحتاج إلى طبيب يخفف الآلام، ويسكن أوجاع العظام، بل تحتاج إلى جراح ماهر باستطاعته معالجة الأعضاء المريضة دون انفصام، أو تعويضها بأخرى سليمة إن حتم المقام، حتى يكون الجسم كله على ما يرام؛ وفي هذا تشهد لك المساجد بل العيادات الروحية على الدوام، فقد كنت تعالج فيها أمراض المجتمع المزمنة وكل سقام، بدءا بقسنطينة فالأوراس الذي طال فيه المقام، مرورا بالحضنة، فالبويرة، فبجاية، إذ كنت تسابق الأيام، بل فكل منطقة كنت تنزل فيها تشهد لك يا إمام.
          وأما عدو الأوطان فهو الاستعمار الذي غصب الأرض والعرض، واستغل العباد والبلاد، وجثم على صدر هذه الأمة طويلا طويلا، فكتم الأنفاس وفتح الأحباس، ونكل بالناس وتمكن من الإندساس، وتحين كل فرصة للفتك والافتراس، ولم يكن يعرف من لغات الخطاب إلا لغة الرصاص، فما كان من عرفاء هذه الأمة إلا أن يقفوا على حمايتها كالحراس، وأن يخاطبوا عدوهم بلغتين لا ثالث لهما، لغة القِرطاس، ولغة القُرطاس.
       ومع اشتعال نار الثورة في ساح الفداء، التحق بطلائع المجاهدين دون انثناء فحملته الثورة مسؤولية القضاء، وما أخطرها مسؤولية في هذا الفضاء، تحملها في سنوات الثورة بكل عزيمة ووفاء؛ حيث عين سنة 1956م مسؤولا للعدالة والتحكيم في منطقة الحضنة ( بالضبط من مدينة المسيلة إلى مدينة بريكة) فأدى الأمانة دون انحناء، كما كلف برئاسة اللجنة المحلية إلى جانب الإشراف على لجنة العدالة والتحكيم بمسقط رأسه عين الخضراء، كما أسند له على مستوى القسمة الأولى ( بريكة – نقاوس- رأس العيون) ومستوى القسمة الثالثة مسؤولية القضاء، وكان كل ذلك بين ( 56 – 1962م).
          وما حُمِّل (محمد الدراجي ميهوبي) هذه المسؤوليات إلا لكونه من العرفاء بمواطن الداء، ومن العلماء العارفين المشهود لهم في علوم العربية وعلوم الشريعة ، خصوصا في مجال النحو العربي ومجال الفقه الإسلامي، ومن العلماء العاملين في مجالي الدعوة والإصلاح؛ حيث قضى أكثر من ربع قرن في تعليم الإنسان وبنائه إلى جانب الفصل في شؤون الناس وقضاياهم، كل ذلك شكل له زادا علميا ورصيدا عمليا وثراء معرفيا. فكانت آراؤه وأحكامه محل احترام وقبول والتزام من الجميع ، كما كان يحتكم إليه في القضايا التي لا يفصل فيها في قسمات ونواحي أخرى، وذلك لكونه المؤهل الوحيد لهذه المهمة في تلك المناطق، وأخص بالذكر منطقتي الأوراس والقبائل.
بسم الإله اقرأ فذاك نداء
                                   فالكون أول آيه الإقـــراء
اقرأ تكشف دونك الأرجاء
                             وتنجلي من غيبها الأشــياء
يا من وهبت بعض أسرار الخليـ
ـ                              قة بح بسرها و إن إفشـاء
ولكن اخش الظن ((إنما يخـ
                          ـشى الله من عباده العلماء))
إن الدنا إذا ربت بحورها
                           فالسائسون لها هم العــرفاء
كن هاديا وقائدا فأنت بعـ
                                 ـد الله ثم المرسلين لواء
            وقد سعى الاستعمار كثيرا في سنوات الثورة للقبض على(محمد الدراجي) فذهب سعيه هباء، وحاول أن يوقع به طوال تلك السنوات لكن الله سلم وشاء، فعمد إلى الانتقام من أسرته والتنكيل بالأهل والأبناء، لكنه لم يستسلم لذلك حتى لاح فجر الاستقلال بالضياء، فخابت آمال فرنسا وتحقق أمل الأجيال على يد العظماء، من مفجري الثورة وصانعي العزة والكبرياء، ومع بداية الاستقلال نادته السماء، أن التحق بموكب الصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفقاء، فكأنه عز عليه أن يفارقهم فقدر له أن يجاورهم دون عزاء، بعد أن سلم المشعل ورحل سنة 1963م ليكون مع ورثة الأنبياء.
          هذه قصة درب طويل تحكي سيرة عالم جليل، ومجاهد سليل شعب أصيل؛ رفض العبودية والتكبيل، وتحدى الموت والتقتيل، وأقسم بأعظم تنزيل، أن يحسم أمره ولو بعد أمد طويل، وأن يبدد ظلام الليل، فكان الحسم –بعد سبع طواها عددا، ومن أرواحه أعطاها مددا- نصرا وسؤددا.
فرحمك الله يا محمد الدراجي، وطيب ثراك، فلتقر عينك، وأعين العظماء من الرجال أمثالك، ولا نامت أعين الجبناء، ولا نامت عين الجلاد.
         فقد كان هؤلاء للسلف خير أحفاد، لهم حضور في كل ناد، يجوبون البلاد ويعشقون صهوات الجياد، ويصنعون الأمجاد، ويكملون رسالة الأجداد، ويرفعون راية الجهاد، ويحققون النصر في كل واد، متى دعوا كانوا في الميعاد، ومتى استنصروا كانوا هم الرواد، شريعتهم النصر والاستشهاد، خلعوا عنهم ثوب الحداد، ومتى استنصحوا لا يجانبهم رجحان أو سداد، فهم عن شرفهم دوما ذُوُّاد، فهم منذ خلقوا أسياد فانصف يا تاريخ حماة البلاد، واحفظي يا أجيال هذا الحصاد، واسلكي سبيل الرشاد، فالله بصير بالعباد. 
                                               والسلام على كل من حمى البلاد.

                                                                                    الدكتور/الشريف عمر ميهوبي

تقاسيم على قيثارة الزمن


تقاسيم على قيثارة الزمن 

(1) بلا عنوان

أصل الكون إنسان …
وأصل الإعمار إنسان ...
وأصل الوطن إنسان ...
فالإنسان هو العنوان .
ولا إنسان خارج حدود الزمان والمكان .
إني أفتش عن أرض ووطن وعنوان ...
إني أفتش عني وعنكم وعنهم وعنا ...
بين طلاسم الماضي ...
ودروب الحاضر ...
وأعتاب المستقبل .
إني أفتش عن إنسان بحجم الأزمة
... بحجم الأمكنة ...
بحجم كل الرؤى الممكنة .
إني أفتش عن إنسان ...
بحجم الأرض والوطن و العنوان .
ما أضيع أن نعيش بلا هدف ولا عنوان !
سأضل أفتش طول العمر عن الإنسان ...
ولكنّي أخشى أني أطارد خيط دخان .

(2) بــداية 

قال: البداية أن تكون .
قلت: أنا أصل البداية والنهاية .
قال : ويحك ! والعدم .
قلت: البداية والنهاية ...
رحلة أولى على شط العدم .
قال: الحياة صراع بين أن تكون أو لا تكون .
قلت: تلك قصة الخليقة و الكون .
فأمرهما بين الكاف والنون ((كن فيكون ))
كاف التكوين و نون النهاية .
أو ((كف )) ؛ كاف الكينونة , وفاء
الفناء (( كل من عليها فان )) .
لكل شيء بداية ونهاية ...
والعبرة فيما بين البداية و النهاية
من حركة و سكون

(3) رحــيل

اعتبر أيها الإنسان ...
قبل أن يفوت الأوان .
وتمايلي أيتها الأغصان ...
فا لنسائم قد لا تعود .
وتراقصي أيتها الأوراق الخضراء ...
فإن الخريف قادم .
وتفتحي أيتها الأزهار ...
فا الربيع لن يدوم
وغردي يا عصافير الدوح ...
قبل أن يطبق الصمت الأبدي .
وائتلقي أيتها النجوم ...
إن الأفول دأب الآفلين .
وتعلم أيها الإنسان كيف تحيا ...
وتعلم كيف تسمو ...
فالكل راحل ...
وأنت أول الراحلين .
فكن باسما كالربيع ..
مترنحا كالأغصان ...
متراقصا كالسنابل ...
متفتحا كالأزهار...
شاديا كالبلابل...
مؤتلقا كالنجوم...
ساميا كالسماء...
حانيا كالأرض.
كن نغما تائها...
في سيمفونية الوجود الحاملة...
قبل أن تطوى صفحة الوجود...
طيا أبديا.

(4) كائن من ورقْ

قال : اتسق
قلت: أنا كائن من ورقْ
قال:ائتلق .
قلت:من يأفل لا يستحقْ.
قال: انعتق.
قلت: إن قيدي لا ينفلقْ.
قال: انبعث
قلت:أي انبعاث لذرات في الهواء تعتلقْ .
قال: التصق.
قلت: إن كل شيء في أرضنا يصطفقْ .
قال: انطلق .
قلت: كل ما فينا يصطلقْ.
قال : من تكون؟
قلت: لا أعرف . وهل تعرف من تكون ؟
قال: هذا قد يهون.
قلت: إذن فلنتفق.
قال: إن الحديث شجون.
قلت: حدثني عما فعلته بنا السّنون.

                                                                                                                                  الشريف عمرميهوبي

الثلاثاء، 18 سبتمبر 2012

الكتابة فعل إنساني وحضاري


الكتابة فعل إنساني وحضاري


في البدء كانت الكلمة وكان الإنسان، وكانت اقرأ وكان القرآن، وكان الحرف ناطقا بالبيان.

فتحية إلى كل من اخترق هدأة الصمت، وأضاء سديم السمت، فعانق الحرف عناقا أبديا، وحاوره حوارا سرمديا.

تحية إلى كل من عانق الحرف أخرسا فأنطق، وعانقه جرحا فأورق، وعانقه باهتا فأشرق، وعانقه صدئا فأبرق، وعانقه زاهدا فأغدق.

تحية إلى من حولوا الأبجدية إلى شموع تنير دروب هذه الأمة في ليلها المدله
م، ومنارات تهدي التائهين في بحرها المرتطم.

تحية إلى كل من حولوا يباب الأرض العربية إلى خضيلة ندية غناء ترقص فيها السنابل وتغني على رباها البلابل.
تحية إلى كل من عزفوا لحنها الأبدي فشكلوا منه سيمفونية وجودها المتناغمة.
بداية هناك الكتابة بمفهومها العام؛ التي تعني شكلا من أشكال التعبير، وهناك الكتابة التي تعني الإبداع الفني الذي له شروط وضوابط فنية تقيده. وهذا التحديد يوجه مسار النقاش ويضعه في إطاره الصحيح.
والكتابة في هذا الموضوع ليس أمرها هينا، و أعتقد أنه لا يوجد من يملك إجابة يقينية في هذا الشأن. فوصف حالة الكتابة كوصف حالة السعادة أو الفرح أو الحزن، أو وصف الإحساس باللذة؛ فكلها حالات وأحاسيس تعجز الكلمات عن وصفها، حالات وأحاسيس تعتري الإنسان جسما وروحا يشعر بها ويعجز عن التعبير عنها؛ يخونه اللسان ويتخلى عنه البيان.
ولذلك أعلن عجزي منذ البداية عن الكتابة في الكتابة، وما أكتبه هو تعبير عن بعض الرؤى والتجارب؛ مثلي فيها مثل من يريد وصف عمق البحر ورحابته من الشاطئ، فهل يستطيع؟
الكتابة في جوهرها فعل إنساني وحضاري؛ تعددت أشكاله ومضامينه، فمنذ أن رُسِّم الإنسان في هذا الكون إنسانا، ووهب العقل والنطق والبيان، وهو يبحث عن نفسه ووجوده، وعلاقته بكل ما يحيط به من بني جنسه، ومن أشياء ومخلوقات وظواهر طبيعية، يبحث عن حقيقة وجوده وحقيقة ما يحيط به. فكانت الدهشة وكانت الحيرة وكان التساؤل وكان التفاعل، وأعقب كل ذلك الالتحام فالانسجام فالكلام، فكان التعبير وكان التصوير وكان التسطير، وبدأ الإنسان رحلة التنوير والبيان.
والكتابة نوع من الإبانة عن النفس والوجدان، وعن علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالكون وما وراء الأكوان.
والكتابة رؤيا وموقف في الحياة ومن الحياة، وهي تفاعل وانفعال، وتشاغل وانشغال، وتفتُّح وانفتاح, وانقباض وانشراح, وإحجام وإقدام.
والكتابة بوح بالشكوى والأنين، والغربة والحنين؛ هي دعوة مفتوحة ليشاركك الآخرون.
والكتابة سفر للهوى عناق أبدي عشق أزلي، صبابة لوعة لذة احتراق ووجد, مخاض ووجع متجدد.
والكتابة اختراق لسطوة الزمان والمكان، استباق لموت أو حياة الإنسان،اختراق لجدار الألفة والعادة والنسيان.
والكتابة هي رؤيا لا رؤية؛ هي عالم بلُّوري شفاف تعيد بناءه خارج رتابة الزمان والمكان والإنسان, هي عالم من المرايا ولأطياف والألوان القزحية.
والكتابة هي حضور في غياب وصحوة في غفوة، هي عالم من أحلام اليقظة والمنام، هي ومضة ودفقة شعورية. 
والكتابة رحلة أشبه برحلة الصوفي؛ فهي نوع من المكابدة والارتقاء والزهد، فحين تحين لحظة الكتابة يتحول المبدع من إنسان عادي إلى إنسان فوق العادة، يخرج من عالم الحواس والمحسوسات إلى عالم يصنعه الخيال والرؤى، ولحظة انتهاء الكتابة يعود من لحظة الصحو إلى لحظة الصحو مرورا بلحظة الغفو.
والكتابة هي حالة ذاتية شعورية؛ يمتزج فيها الوعي باللا وعي، والشعور باللا شعور، والمعقول باللا معقول، والذاتي بغير الذاتي، والداخلي بالخارجي، والوجود باللاوجود. فهي ولادة فنية يمتزج فيها كل ذلك.
والكتابة هي تناصٌّ وتقاطع بين تجربتك وتجارب الآخرين؛ الغابرين والحاضرين والمنتظرين. هي أن تعيش تجارب الآخرين، وأن تستحضر الآخرين في تجربتك.
والكتابة مسؤولية ملقاة على عاتق الكاتب؛ لأن الكلمة كالرصاصة إذا خرجت فعلت فعلتها ولن تعود، فهي سلا ح ذو حدين؛ فقد يكون حاميا وقد يكون داميا.
فالكلمة هي البذرة الأولى في نشأة الثقافات، وهي اللبنة الأولى في بناء الحضارات. فالكلمة هي التي تمهد الطريق للحضارة. يقول الأديب التشيكي (فرانس كافكا ): ( إن الكلمات هي التي تمهد الطريق للأفعال وتثير انفجارات الغد).
والكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها).(إبراهيم/24)
هذا بعض مما أتصوره عن الكتابة، وبعض مما أشعر به وقت الصبابة؛ قد يمثل بعضا من الإجابة، وقد لا يمثل شيئا عن الكتابة.

                                                  مع خالص تحياتي لكل المشاركين
                                                  
                                                                                             الشريف عمر ميهوبي







الاثنين، 17 سبتمبر 2012

تأملات في فضاء الثقافة


تأملات في فضاء الثقافة

الثقافة والمثقف في الجزائر، وضعية وتساؤل؟

     كلمة (( ثقافة )) تتشعب مفاهيمها، و تتنوع مضامينها ،وتتعدد معالمها بتعدد الزوايا التي ينُظِر إليها من خلالها، و لكن رغم ذلك فقد ظل الإنسان و المجتمع هما المحورين اللذين تدور حولهما مختلف التعريفات و المفاهيم وما يهمنا من كل ذلك هو إستنتاج تعريف للثقافة يعكس مفهومنا لها .

فالثقافة هي كل ما يعكس النشاط الفكري الفردي أو الجماعي في شتى الميادين، على أن يكون ذلك النشا
ط مرتكزا على التراث بمقوماته و خصائصه، من عادات وتقاليد وأعراف، ومعارف ومعتقدات، بحيث يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع الذي يعيش فيه، وفي إطارها تتشكل شخصيته لتصبح محتوى ومضمون هذه الشخصية،وبدونها يتعذر استمرار هذه الشخصية بخصائصها ومقوماتها المتميزة وبذلك تصبح الثقافة هي هوية الشعوب، والرمز الدال عليها واللحن المميز لسنفونيتها، تعكسها مظاهر التعبير الإنساني من خلال الآداب و الفنون و المخترعات، وتعكس مظاهر الحياة بكل تفاصيلها. فالثقافة كما يقول _ المفكر مالك بن نبي- : (( ليست علما خاصا لطبقة من الشعب دون أخرى بل هي دستور تتطلبه الحياة العامة ، بجميع ما فيها من ضروب التفكير و التنوع الاجتماعي))


ولا أجد تصورا أشمل لوظيفة الثقافة وأهميتها في المجتمع من تصور _ مالك بن نبي _ لها؛ حيث مثل وظيفتها في المجتمع بوظيفة الدم في الجسم: (( فهو يتركب من الكريات الحمراء والبيضاء وكلاهما يسبح في سائل واحد من " البلازما" ليغذي الجسد. والثقافة هي ذلك الدم في جسم المجتمع؛ يغذي حضارته، ويحمل أفكار "الصفوة" كما يحمل أفكار "العامة" ، وكل من هذه الأفكار منسجم في سائل واحد من الاستعدادات المتشابهة والاتجاهات الموحدة، والأذواق المتناسبة)).


فأهمية الثقافة في حياة الشعوب كأهمية الدم لحياة الإنسان ؛ فهي التي تحصن شخصية الفرد والأمة من الذوبان و الانحلال و تعطيها القوة و المتانة ، وتحميها من الانحراف .


فهي الذخر الذي تعود إليه الشعوب عند الحاجة، و هي السند الذي تعول عليه في وقت المحن، وهي الرصيد الحقيقي الذي يسندها عند الملمات ، وهي المعين الذي لا ينض، تنهل منه الأجيال فيعطيها سر الحياة و البقاء، و يؤمن لها الاستمرارية، ويحفظ لها الاستقرار .


في ظل هذا الدور الذي تلعبه الثقافة في حياة الأمم والشعوب, فإنه يجد ر بنا اليوم أن نتساءل عن وضعية الثقافة ودورها في مجتمعنا وعن مكانتها فيه .


إن المتأمل في ثقافتنا اليوم تأملا هادئا يدرك أنها تمر بأزمة حادة، تتمثل أهم مظاهرها في عدم القدرة على العطاء، وعلى التواصل مع طموحات المجتمع وأهدافه؛ ولعل ذلك يعود إلى أسباب عديدة، منها أنه لا يوجد مشروع ثقافي واضح المعالم، له أهداف يتوخى تحقيقها على المدى البعيد، مشروع نابع من مقومات وأصالة هذا المجتمع ، ومن انتمائه الحضاري، متفتح على الثقافات الإنسانية، يراعى فيه جوانب الفعالية والإبداع والتجدد، لا يتوقف عند طابع النقل والتقليد، أو التبعية المطلقة لثقافات أخرى، بل يأخذ ما هو أصيل وفعال في تراثنا, وما هو جديد وبنّاء في حاضرنا, على أن يكون متماشيا مع طموحات وأهداف المجتمع, حتى لا تكون هناك قطيعة بين الحركة الثقافية, وما يحلم به المجتمع من نمو وتطور.


ومجتمعاتنا العربية الصغيرة لها خصوصياتها التي ينبغي أن تراعي في أي مشروع, أو سياسة ثقافية, بحيث نبحث على جوانب التوافق والتكامل بين هذه الخصوصيات, لنصل في النهاية إلى وحدة المشروع, ووحدة الهدف, فيكون لهذا المشروع أبعاد هي: البعد الوطني, والبعد العربي الإسلامي, والبعد الإنساني, وهذه الأبعاد هي سلسلة مترابطة الحلقات, لا يمكن تجاوز إحدى حلقاتها, أو الاهتمام بإحداها على حساب الأخرى, بل كل لها أهميتها و دورها في هذه السلسلة.


فالبعد الوطني, مثلا, يجسد اهتمامنا بكل ما في أوطاننا من خصوصيات, وأحداث ومنجزات ورموز, و آمال وطموحات, وأهداف تسعى لتحقيقها من أجل الرقي والتطور؛ أي الاهتمام بالتاريخ البعيد والقريب بمفهومه الواسع والشامل، بقدر الاهتمام بالحاضر المعيش والمستقبل المنشود.


أما البعد العربي الإسلامي. فيجسد انتماءنا إلى الحضارة العربية الإسلامية التي شاركنا في صنعها, وأخذنا منها مقومات شخصيتنا, وأصالتنا, فصارت ثقافتنا امتدادا لمنتج هذه الحضارة, وكذلك انتماؤنا إلى ما يسمى اليوم بالعالم العربي الإسلامي الذي هو جزء منا ونحن جزء منه, فما يربطنا به الدين واللغة والتاريخ المشترك والمصير المشترك والجوار, والطموحات, والآمال, والأهداف ... إلخ.


أما البعد الإنساني, فيتجسد في علاقاتنا بثقافات الشعوب الأخرى التي لا تدخل في إطار البعدين, الأول, والثاني, فمن الضروري أن نتفتح على ما يجري في العالم من حولنا فنتعرف على ما تنتجه تلك الشعوب في شتى ميادين العلم والمعرفة, لنواكب ما يحدث فيها من تطور وتقدم, لنثري ثقافتنا بكل ما هو جديد وفعال, على أن يكون تفتحنا محسوبا ومدروسا؛ بحيث لا يكون على حساب هويتنا وثقافتنا, كما هو الحال اليوم, تفتحا يرجى من ورائه التعرف على تلك الثقافات, والأخذ منها قدر الحاجة دون أن تكون غاية في ذاتها تجعلنا ندخل في إطار التبعية التي تهدد كياننا – كما هو شأننا اليوم- أي الثقافة التي نختارها وليست التي تفرض علينا فرضا، فإذا سرنا في هذا الاتجاه بخطى مرسومة, وأهداف معلومة, حققنا ذاتنا, بل حددنا هويتنا مع تفتحنا على الثقافات الإنسانية الأخرى.


عندما نصل إلى مشروع ثقافي تتفاعل فيه هذه الأبعاد وتتلاحم فإنه يمكننا أن نأمل في ثقافة متميزة, ثقافة أصيلة وواعية, ثقافة مدركة, ثقافة منتجة, ثقافة كالشجرة الطيبة, أصلها ثابت وفرعها في السماء تأتي أكلها كل حين, نسعد بنمائها, وننتعش باخضرارها ونستمتع بهوائها, ونستظل بظلها, فإذ حركنا أغصانها فلا نجني إلا ثمارها.


فإذا نظرنا إلى واقع ثقافتنا اليوم انطلاقا من هذا التصور, وجدنا أنها لا تحقق هذه الأبعاد مجتمعة في حركتها, بل تحقق بعضها مع إهمال بعضها الآخر, إلى جانب اشتمالها على كثير من التناقضات. ولعل هذا هو ما جعلها تتعثر ولا تتماشى مع طموحات وأهداف المجتمع, انحرفت عن مسارها الصحيح, وعن أهدافها المرجوة, فانحرف عنها المجتمع, وراح يبحث عن قيم وثقافات أخرى عله يجد فيها ما لم يجده في ثقافته التي شوهت. وهذا هو الذي جعل مجتمعاتنا تتعرض لهزات متتالية وتقلبات متوالية في العقود الأخيرة؛ لأن ثقافتها لم تكن في مستوى التطلع والطموح الذي تصبو إليه.


إذن فثقافتنا اليوم موزعة بين هذه الأبعاد, ولا تمثلها مجتمعة في تفاعلها وتلاحمها, فهي تقف في مفترق الطرق, عين إلى الوراء, وعين إلى الأمام, إما الاحتماء بالماضي بكل إنجازاته ورموزه, لأنه يعطيها نوعا من الثقة, وإما الانتماء إلى ثقافة الغرب, والارتماء في أحضانه لتصل من خلال ذلك إلى ما توصل إليه من تقدم وتطور. وبين هذا وذاك ظلت ثقافتنا بين مد وجزر يتجاذبها تياران, فلا استطاعت أن توفق بينهما ولا استطاعت أن تحقق أحدهما, فصارت مثالا للتقهقر, وصورة للتبعية والاستلاب, لأنها لم تستطع المواجهة ولا الصمود أمام ثقافة الغرب, ولأنها لم تكن محصنة, وكانت تحمل في ذاتها أسباب مرضها فأصيبت بمرض فقدان المناعة, فاختلط فيها الأصيل بالدخيل, والفعال بالهزيل, لأن الثقافة كالإنسان, تدخل الفيروسات في جسمها فتدمر كل ما هو أصيل وفعال فيها.


ولا تقوى أية ثقافة على رد تلك الفيروسات إلا إذا كان لها جهاز مناعة قوي, يرتكز على مقومات أساسية وثوابت أصيلة, تضرب بجذورها في أعماق التاريخ, لأنه لا يكتب البقاء ولا الامتداد إلا لكل ما هو ثابت في أصالته وقوي في فعاليته, أما الأفكار الدخيلة والأشياء المتغيرة فتظل غربية عن جسم المجتمع الذي يمثل تلك الثقافة, وغير ثابتة في حياته.


وثقافتنا حملت معها فيروسات من الماضي غرسها في جسدها استعمار بغيض, كما دخل جسدها فيروسات أخرى بفعل الغزو الثقافي, وباسم التطور والتقدم الزائف.


والحالة التي فيها ثقافتنا اليوم ما هي إلا صورة معبرة عن مجتمعنا, وما مجتمعنا إلا صورة صادقة لواقعنا الاقتصادي المتدهور, وحياتنا الاجتماعية والفكرية والثقافية المتأزمة, فلا ثقافتنا استطاعت أن تحصن مجتمعنا, ولا مجتمعنا استطاع أن يحمي ثقافتنا, فدخل الجميع غرفة الإنعاش, فهل أدركنا ذلك أم مازلنا نتوهم غير ذلك؟


فكيف ننتظر من ثقافتنا اليوم في ظل هذه الأزمة أن تغير الواقع, أو تطور المفاهيم أو تحرر العقول, لتتحر السواعد؟ فكيف تحقق ذلك؟ وهي مهددة الانتماء, فاقدة العطاء, يميزها الاندفاع, وقلة الإبداع, تنقصها الفعالية وتسودها الانفعالية وتحكمها الارتجالية, مترهلة تعاني من السقم وتشتكي من العقم.


كيف تحقق ذلك في ظل أوضاع اجتماعية مزرية يعشش فيها التخلف وتحكمها الأمية وتسودها التبعية, فوضع المثقف بفكره إذا أراد اختراق هذا الثلاثي الرهيب, لا يكون أحسن حالا من سيزيف وصخرته, فالأمية التعليمية تشل ثلث مجتمعاتنا, والأمية الثقافية تشل ثلثها الآخر, والتخلف والتبعية يتقاسمهما الجميع؟


كيف نحقق ذلك, ومؤسساتنا الثقافية والتعليمية عاجزة عن تأدية رسالتها ودورها الحضاري والتربوي, مما كرس سيادة نوع معين من الثقافة, يغلب عليه الطابع الشعبي والفلكلوري المبتذل الذي تمليه المناسبات, فصارت مؤسساتنا الثقافية في كثير من الأحيان عبارة عن مؤسسات فلكلورية لا تفتح أبوابها إلا في المناسبات, وليست مؤسسات للإشعاع الفكري والثقافي, مما يؤهلها لأن تكون رافدا من روافد ثقافتنا الأصيلة تثريها وتساعد في تنميتها وتطويرها. وقد أسهمت تلك المؤسسات في إيجاد جمهور فلكلوري يحب المتعة الآنية وكل ما يثير عواطفه وأشجانه, جمهور يتخيل أكثر مما يفكر, يستخدم عواطفه ولا يستخدم عقله, يأبى الثقافة التي تنمي فيه الفكر, وتخاطب العقل, وترفع فيه من درجة الوعي.


أما مؤسساتنا التعليمية فقد تخلت عن دورها التربوي, حيث أصبحت تهتم بالجانب التعليمي على حساب الجانب التربوي, وبالجانب الكمي على حساب الجانب الكيفي, مما جعلها مؤهلة لتخريج جحافل من حاملي الشهادات غير المحصنين بالثقافة التربوية, مما جعل كثيرا منهم يستهتر بقيمنا الحضارية وأصالتنا, ويعزف عن تاريخنا بكل إنجازاته ورموزه. أما اهتمامها بالجانب الكمي على حساب الجانب الكيفي فقد نتج عنه كثرة المتخرجين من حاملي الشهادات, ولكن مستوى كثير منهم لا يرقى إلى المستوى العلمي المطلوب, فقلما تجد من بينهم من هو مؤهل لأن يكون باحثا أو مبدعا أو مفكرا أو فيلسوفا, وما أحوجنا اليوم إلى مثل هذه الفئة المبدعة.


ولعل ما أسهم _كذلك_ في انحطاط المستوى, هو تأثر مؤسساتنا التعليمية بما يجري في المجتمع من تناقضات, فصارت تتأثر سلبا, ولا تؤثّر إيجابا، هذا إلى جانب القوانين التي تحكم منظومتنا التربوية, والبرامج التي تقدم من خلالها, ونوعية المعلم والأستاذ الذي يقوم بالتدريس فبرغم وجود من لهم القدرة والكفاءة من رجال التربية والتعليم، فإن منهم كذلك من هم دون مستوى, وأغلبهم يحتاج إلى إعادة تأهيل. فكيف تنتظر منهم تكوين جيل ناجح مؤهل في تعليمه وحياته؟ ففاقد الشيء لا يعطيه.


فوضع مؤسساتنا التعليمية هذا أسهم في انحطاط الثقافة العلمية والتربوية، التي تحصن التلميذ والمعلم والطالب والأستاذ والمؤسسة، من أي ثقافة أخرى هدامة, وتسهم في تغيير المجتمع وتنويره من ثقافة الدجل والشعوذة.


ضف إلى كل هذا فإن مؤسساتنا الإعلامية _برغم الدور الخطير الذي تلعبه_ قد ظلت دون المستوى المطلوب, ولم تكن أحسن حالا من المؤسسات الثقافية والتعليمية الأخرى.


فلم تعط تلك المؤسسات للثقافة الجهد أو المساحة الإعلامية التي تستحقها, وحتى ما كانت تقدمه عرضا لم يكن كافيا, وكانت هي المسئولة في كثير من الأحيان على تجسيد الرداءة وتشجيعها من خلال تغطيتها لما هو غث ومبتذل ودخيل, يسهم في فساد الذوق, وانحطاط الثقافة الأصيلة الفاعلة, أكثر ما يساعد على إثرائها وإنمائها. فلو أنها اهتمت بالثقافة قدر اهتمامها بالسياسة والرياضة, لكانت حققت ما لم تستطع المؤسسات الثقافية تحقيقه ولو أنها اهتمت بالمثقف قدر اهتمامها بالسياسي والرياضي, لما وصلنا إلى ما نحن فيه, لأن الاهتمام بالمثقف يعني الاهتمام بالثقافة.


ويوم أن تصل وسائل إعلامنا إلى تغطية الحركة الثقافية ونشاطات المثقفين وتسخر جزءا من إمكاناتها البشرية والمادية لخدمة الثقافة, مثل ما تفعل مع الرياضة ونشاطات الرياضيين, على سبيل المثال, نقول يومها إن إعلامنا بخير, فقد بدأ يسير في الاتجاه الصحيح.


والحديث عن الثقافة يعني الحديث عن المثقفين بانتماءاتهم المختلفة, إما إلى الثقافة الأصيلة- من الأصل- أو الثقافة الدخيلة, فأغلبهم لم يخرج عن دائرة التبعية والتقليد إلى طريق الإبداع والابتكار والتجديد, لأن الفئة الأولى ظلت تتغنى بأمجاد الماضي وتعيش أحلامها من خلاله, محاولة استحضاره في كل موقف, لتقيس الشاهد على الغائب لتحقيق رغبة عجزت عن إدراكها في الواقع المعيش, دون أن تستلهم العبرة من الماضي وتأخذ منه كل ما هو أصيل وفعال, تتبناه وتضيف إليه من حاضرها لتنطلق في بناء مستقبلها, لا أن تعيش على الذكرى, وتحاول إعادة ما مضى ولن يعود, وحتى ما حاولت أن تضيفه من ثقافات أخرى كان عن غير وعي, بحيث لم تنتق فلم ترتق.


أما الفئة الثانية, فظلت, كذلك, تتغنى بثقافة الغرب, وما حققه من تطور وتقدم, فتبنت لغته وثقافته محاولة تقليص المسافة بين المجتمع الذي تعيش فيه والمجتمعات الغربية, ولكنها فشلت, لأنها لم تكن تمثل من ثقافة الغرب إلا الجانب الشكلي, وما لفظته تلك الثقافة, ونسيت هذه الفئة أن أصول التقدم والتطور, لا تهدى أو تؤخذ انتسابا, وإنما تنبت إنباتا وتؤخذ غلابا. فكم من مجتمع تبنى لغة الغرب وثقافته يعيش اليوم فقرا مدقعا, وتخلفا مفزعا, والأمثلة على هذا كثيرة ( بعض دول آسيا وإفريقيا), وكم من مجتمع طور لغته, وحقق ذاته, وسخر إمكاناته هو ينافس الغرب اليوم, إن لم يكن قد تجاوزه في كثير من الأمور, وبعض دول آسيا دليل على ذلك.


إلا أنه يمكن أن نستثني من الفئتين السابقتين مجموعة من مثقفينا, استطاعت أن تبرز بإنتاجها الجيد, وطرحها الجاد, في الميادين الفكرية والعلمية والأدبية, وأثبتت وجودها على الصعيد الوطني, والعربي, وحتى العالمي, إلا أن هذه المجموعة لا تمثل القاعدة وإنما تمثل الاستثناء, لأنها قليلة إذا ما قيست بالفئتين السابقتين, ومع قلتها, فمنها من يحاول التنفس بصعوبة في جو الرداءة الثقافية التي نعيشها اليوم, وفي ظل الأوضاع التي تعرفها مجتمعاتنا, وفي ظل ظروف اجتماعية ومهنية صعبة, ويحاول بالرغم من ذلك أن يقاوم ليدحض الرديء بالأصيل, في ظل أوضاع سائدة, وقيم مبعثرة, ومفاهيم مشوهة مغروسة, ومذاهب غامضة مجلوبة, وشعارات مضللة رائجة تتطلب جميعها صراعا فكريا وكفاحا نفسيا. وهذه المجموعة كأنها اتبعت المثل الذي يقول: لا تخش السير ببطء ولكن احذر التوقف. ومنها من هاجر داخليا وخارجيا؛ أما الهجرة الداخلية, فنحو الانزواء والانطواء والاستسلام للأمر الواقع, بعدما همّش عن قصد أو غير قصد, وبعدما شعر بالعجز اتجاه المجتمع, وعدم الانسجام معه, واتساع الهوة بين أوضاع المجتمع الراهنة وما يتمناه ذلك المثقف, فجعله هذا يعيش نوعا من الاغتراب النفسي أو الغربة الداخلية. وهذا النوع من المثقفين يصدق عليه قول أبي حيان التوحيدي ((أغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه)).


أما من هاجر إلى الخارج, فهروبا من واقع اقتصادي واجتماعي وثقافي لا يشجع على الاستقرار أو التواصل ولا يحقق للمثقف ما يحلم به في مجتمعه أو بلده. فاختار الهجرة نحو مجتمعات تقدر المثقف الجاد, وتهتم بقدراته, وتسخر له الوسائل والإمكانات التي يحقق بها ذاته, والتي لم يستطع أن يتحصل عليها في بلده, مجتمعات تحفظ للثقافة مكانتها, وتضعها على رأس أولوياتها, ولكن الهروب يبقى هروبا, ولا يحل مشكلة المثقف, فهو علاج مؤقت لا يدوم. ولكن قبل أن نلوم الهارب يجب أن نلوم الذي دفعه للهرب.


هذه هي وضعية ثقافتنا ومثقفينا كما نراها اليوم بشكل مجمل _ وقد يكون لغيرنا رأي آخر محالف أو مخالف _ وهي بلا شك نتيجة سياسة ثقافية متبعة أثبتت فشلها وعقمها. وإذا أردنا أن ننهض من كبوتنا وأن نصحو من غفوتنا, ينبغي أن نعيد النظر في سياستنا الثقافية, وأن نبحث عن مشروع ثقافي جلي المعالم واضح الرؤى يسهر المثقفون على إنجازه ويشرفون على تنفيذه, وحتى يتحقق ما نتمناه, نقول لمثقفينا ما قاله شكسبير ((إن الليل الذي لا يعقبه فجر لليل طويل)) وما تقوله الآية الكريمة:((إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)).


أليس الصبح بقريب؟



                                                                                 وكل عام وأنتم وثقافتنا بخير.








                                                                                                                  د. الشريف عمر ميهوبي