الاثنين، 28 يناير 2013

الأسس النظرية والمنهجية لأطلس لسان المجتمع العربي


الأسس النظرية والمنهجية لأطلس
لسان المجتمع العربي

                                                                  الأستاذ/ إبراهيم محمد الخطابي(*)




1- تمهيد
من البديهيات الأولية التي فرضها عصر التكنولوجيا الذي نعيشه اليوم، ذلك الترابط العضوي الوثيق القائم بين البحث العلمي من جهة، والتطور المجتمعي من جهة أخرى.
فكل ما نشاهده اليوم، من إنجازات واختراعات في مختلف فروع العلوم والمعرفة، هو في واقع الأمر، حصيلة عمل فكري نظري أولي، تم نقله في مرحلة ثانية إلى طور الإنجاز أو التطبيق، حيث تنصهر النظرية مع التطبيق، والفكر مع الواقع، ينسحب على كل مجالات المعرفة، والإبداع الفكري، وهو يشكل الشرط الأساسي الأول للنهوض بالعلوم، وبالمجتمعات التي تسعى إلى إنتاج العلم، خدمة لمصالحها ومستقبلها.
وعلى هذا الأساس فإن البحث العلمي والتنمية، عمل دينامي يتطلب التفاعل العميق مع المحيط  المجتمعي بكل خصائصه ومميزاته.
إن الاهتمام الشامل بأبعاد التنمية، يفرض علينا الاهتمام بكل مجالات البحث، ومن هذه المجالات، مجال اللسانيات المجتمعية، والأطالس اللسانية والموضوعات الأخرى المتفرعة عنها، كالمصطلح العلمي، ونقل التكنولوجيا، ولا يمكن أن يعتبر ترفا فكريا لا صلة له باهتماماتنا التنموية، بل هي أبعاد لا تقل أهمية عن البعد التقني، والحسابي لواقع التنمية.
وإذا نظرنا إلى اللسانيات العربية نظرة علمية، فإن أية نظرة موضوعية إلى التعبيراللساني، لتدعو إلى اعتبار العربية الفصحى، مقياسا عرفيا للصواب والخطأ، دون أن يكون لها بذلك قيمة موضوعية متميزة، تميزها عن اللهجات التي تعتبر بدورها نماذج لغوية لا تقل أهمية من ناحية الموضوع عن اللغة العربية في شيء.
ولكي تكون الأبحاث اللسانية العربية، مسايرة لروح الواقع والموضوعية، فإن علينا القيام بالمسح الميداني للسان العربي المجتمعي، بكل استعمالاته المتنوعة، من أجل رفع المخلفات وأحكام القيمة التي علقت به، منذ القرن الثاني الهجري، حيث ظهرت محاولات في جمع مادة اللغة العربية في صورة معاجم، لا تصور لنا صورة حقيقية ما كان عليه الواقع اللساني بين مختلف المجتمعات الإسلامية والعربية.
ولا شك أن الباعث الديني كان من أوليات اعتنائهم هذا، وذلك أنه لما كثر عدد الداخلين في الإسلام، وعدد الموالى من الروم، والزنج، والسغد، والسند، وإيران، والأمازيغ، وتوران، وعناصر أخرى مختلفة، نشأ في الأمصار جيل جديد يشترك أفراده في اتخاذ اللسان العربي لسان محادثة، ومعاملات، ففشا الفساد بالطبع في اللسان، وتعكر صفوه، وتباعد شيئا فشيئا، عن لسان ربيعة، ومضر، فنطق أهل المدن بألفاظ في كلامهم العادي، على غير ما هي عليه في الفصيح، وتوسعوا في مدلولات الكلام، وتركوا منها بعض المعاني التي كانت لها في نجد، والحجاز، واعتاضوا عنها بمعان محدثة، فخاف المفكرون على القرآن، أن يتسرب إليه اللحن وأن ينغلق على الأفهام معنى بعض الألفاظ الواردة فيه، وفي الحديث النبوي.
فلا غرابة من أن نجد بين رجال الطبقة الأولى، من اللسانيين بعض القراء المشهورين، كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر الثقفي.
هؤلاء هم المبتكرون والمؤسسون، ويذكر عن بعضهم تأليف كتب، غير أنه لم يصل إلينا منها شيء ولا يعرف من مذاهبهم إلا ما تفيدنا به تصانيف تلاميذهم؛ الذين منهم الخليل بن أحمد، وأبو زيد الأنصاري، والأصمعي، والكسائي.
فهؤلاء رجال الطبقة الثانية، الذين تخرج عليهم أعيان من الجيل الثالث، كأبي حاتم السجستاني،  وابن السكيت، والمبرد، وأبي عبيد القاسم وغيرهم.
أما المناهج التي اتخذها رجال الطبقتين، في دراسة اللسان وتأليفه، فهي في ثلاثة اتجاهات: 
أولا: تدوين المفردات وتفسيرها حيث ما اتفق، وكما تيسر للباحث سماعها وتسجيلها، دون مراعاة في ذلك لترتيب أوتنظيم، على نمط الكتب المعنونة  بـ " الأمالي" ، وخير مثال على ذلك في القرن الثاني والثالث:
" نوادر أبي زيد الأنصاري" و"الكامل"للمبرد، فالكتابان وإن كان الغالب عليهما، الصبغة اللسانية لم يتمحص المؤلف في كليهما، لدراسة اللسان حيث إنه ينزح نزوحا شديدا إلى نواح أخرى؛ من الثقافة فيغمر القارئ بسيل عرام من خطب وأشعار وأمثال وأخبار، سهم اللسان منها، تفسير غريب نثرها ونظمها والاستشهاد به في البحث عن المفردات.
ثانيا: يذهب الباحث في تأليف اللسان، من جانب المعنى، إلى اللفظ فيجمع الأجناس بحسب المعاني، ثم يجعل كل جنس موضوع كتاب، أو جزء لكتاب، وهذا المنهج هو الذي اتبعه الأصمعى، في كتبه، ككتاب: الإبل، وكتاب النخل والكرم، وآخر في الشتاء، مستقصيا جميع ما يتعلق بها   وبموضوعاتها، أسماء كانت أو أفعالا، محددا الألفاظ والمعانى، ومفرقا بين ما يوهم التقارب والترادف، ومعمما العمل على جميع الأجناس، وهذا نفس المنهج الذي اتخذه ابن سيده في المخصص.
ثالثا: التدوين بتمام معنى العبارة، حيث إنه  وضع معجما يشمل كل المفردات على نمط خاص، ليرجع إليه من رام البحث عن هيئة إحداها، وعن معناها أو معانيها إن كانت من المشترك.
وأول كتاب وصل إلينا تأليفه على هذا المنهج في جمع اللغة وضبطها هو كتاب " العين" المنسوب إلى الخليل بن أحمد الأزدي الفراهيدي. مع أنه أنكر ذلك عدد من العلماء.
وممن اهتم بالموضوع الأزهري في مقدمة التهذيب، والسيوطي في المزهر. وما يبدو لنا في هذا الإشكال، هو أن الخليل بن أحمد الأزدي رسم الكتاب وجزأ مادته؛ وبوب أبوابه وشرع في تأليفه وتوفي قبل أن يتمه فأتمه غيره. ومما أُلّف على منهج كتاب العين في القرن الخامس الهجري " المحكم والمحيط الأعظم" لابن سيده المرسي الأندلسي، على الرغم من أنه لم يهتم على ما يبدو بالمناهج الجديدة التي  نهجها الجوهري في أواخر القرن الرابع، في كتاب"الصحاح"، وتابعه في منهجه الصَّغاني في "عبابه" وابن منظور الإفريقي في "لسانه" في القرن السابع، والفيروز أبادي في " قاموسه" في القرن الثامن.
والذي أريد أن أصل إليه، في هذا العرض التاريخي، هو طرح أسئلة تكميلية على بساط البحث، ومحاولة الإجابة عنها فيما بعد وهي:
1.1- ما هي مصادر المؤلفين الأساسية؟ وما هي المادة التي اجتهدوا في جمعها وتسجيلها في مؤلفاتهم؟
أول هذه المصادر كما أرى هو:القرآن الكريم.
والمصدر الثاني: الحديث النبوي، وكان الحديث من أكبر البواعث على جمع اللغة ودراستها، لتفسير الحديث وتحديد معانيه، وتسجيل مفرداته، ولم يروا جواز الرواية بالمعنى؛ مانعا للاستشهاد به على ما ذهب إليه بعض النحاة.
والمصدر الثالث:"الشعر"، فهو كما يقولون "الشعر ديوان العرب، به حفظت الأنساب وعرفت المآثر، ومنه تعلمت اللغة وفسر ما أشكل من غريب الكتاب والسنة".
على أن ما يحتج به من الشعر، ويجدر بالتسجيل في دواوين اللغة، هو الشعر الجاهلي، والمخضرمي والإسلامي، ونقل عن الأصمعى أنه قال: " ختم الشعر بإبراهيم بن هرة وهو آخر الحجج ".
وأما المولدون، وهم الذين جاؤوا بعد انتقال الخلافة من بني أمية إلى بني العباس، فلا يعتمد على كلامهم، ولا يسجل منه أي شيء في معجم اللغة، فهذا أبو تمام وهو الشاعر المفلق مادح المعتصم، والواثق، وهو العالم الجليل، جامع ديوان الحماسة، وغيره من الاختيارات فأما رواياته فهو فيها متقن، وحجة غير مردودة، وأما شعره فلا يستشهد به حيث إنه من المولدين، فلم يجعلوا ما يقوله بمنزلة ما يرويه.
والمصدر الرابع: الأمثال القديمة؛ وهي كماقيل ديوان العرب وحكمة الأمم، فاعتنى بجمع الأمثال بعض أعيان القرن الثاني، والقرن الثالث، وصل،إلينا من معاجمهم في الأمثال:كتاب "الأمثال" للمفضل الضبي،وكتاب "الأمثال"لأبي عبيد،وكتاب           " المفاخر" للمفضل بن سلمة.
والمصدر الخامس: السماع من الأعراب الذين لم تصب ألسنتهم من الفساد ما أصاب لهجة الأمصار، فكان اللسانيون يخرجون إلى البادية ويتجولون في نواحيها ويشافهون أهلها، ويكتبون كلامهم من أفواه رجالهم ونسائهم، لا يفرقون في ذلك بين أدبائهم وأقزامهم الأنداع، هذا منهج الأصمعي، فكثير ما يذكر استفادته من أعرابي أو من النساء والصبيان، وقف عندهم للعبهم ملاحظا، ولحديثهم مصغيا.
هذه هي مصادر المعاجم الكبار، التي بين أيدينا اليوم، وهذه المادة التي اقتصر مؤلفوها على جمعها وضبطها وتفسيرها، فمما لم يسوغوا تسجيله في معاجمهم وتركوه عمدا كل ما يطلق عليه اسم المولد منه مصطلحات العلوم، ومنه كل ما مست الحاجة إلى الإعراب عنه نطقا وكتابة، من أشياء حديثة، وأفكار جديدة، أنتجها التطور المجتمعي، فلُجىء في التعبير عنه إلى توفير مشتقات والتوسع في المدلولات.
وقد عرفنا ما بذله اللسانيون من الجهود الجادة،في حصر مصطلحات اللغة العربية والإحاطة بكل ما تشتمل عليه من الأصول والمشتقات.فهل كلل سعيهم بالنجاح التام؟ نقول، بكل صدق، لا.
لقد صرح علماء اللغة بأن ما ذهب من الشعر،والأمثال، والنوادر، قبل التدوين والتسجيل، أكثر مما وصل إلينا، فلا نستبعد أن يكون في اللهجات العامية، المنتشرة من البحر الهندي إلى المحيط الأطلسي، عدد وافر من المصطلحات والمفردات ينتمي أصله إلى أعتق العربية وأعرقها، غير أن اللسانيين لم يهتدوا إلى العثور عليها وتسجيلها بالكتابة في معاجمهم أو أنهم ليسوا في حاجة إليها وإلى استعمالها في تلك الحقب وأهملوها.
2- ظهور الأطالس اللسانية
1.2- الأطالس الأوروبية
حاولنا أن نبين فيما سبق؛ أن المعجم بطبيعته لا يبت بتفصيل الصفات اللسانية كل واحدة على حدة، من حيث التوزيع الجغرافي، والطبقي، والحرفي، أو التاريخي، ومثل هذا العمل  هو مجال الأطالس اللسانية التي ظهرت في العقد الثاني من هذا القرن، فقد ظهرت مجموعات من الأطالس حسب الترتيب التالي:
أولا:بألمانيا سنة 1876 (1)وفي فرنسا سنة 1896(2)، وفي أمريكا سنة 1930(3) وبريطانيا سنة(1950) و (1978).وقد اتخذ أطلس جيليرو(Gilliéron)وتلميذه إدمون إدمون(Edmond Edmont) نموذجا لأطالس اللغات الرومانية، وخاصة الأطلس اللساني الإيطالي، وجنوب سويسرا الألمانية، وأطلس روما، والولايات المتحدة، وكندا، وفنلندا.
وتتميز هذه الأطالس اللسانية باختلافات كبيرة فيما بينها سواء من حيث الهدف أو الإنجاز ، فهدف الأطالس الألمانية، كان تحديد مجالات الأصوات والصيغ لتثبت بواسطة هذا التحديد، الحدود اللسانية، والمسالك التي  سلكتها في  الانتشار، وهذا ما يسمح في نظر واضعيها بالتوصل إلى فكرة تأليفية عن ظروف التطور في اللسان الألماني.
أما أطلس "جيليرو Gillieron" فقد ركز على دراسة الألفاظ مع تحديد دقيق لجزئيات المصطلح، ولا يهتم هذا  الأطلس بالصوتيات، إلا بالقدر الذي يساعده على فهم تاريخ تنوع اللهجات داخل حدود فرنسا.
ولا ننسى كذلك أن الدراسات اللسانية في هذه الحقبة، مرتبطة باللسانيات التاريخية التي تهدف إلى  المساعدة على دراسة التطور التاريخي للغات. لذلك كان علماء اللسان، يبحثون عن مناطق أكثر تمثيلا للهجة الأصيلة النقية الأكثر محافظة، كالمناطق النائية المنعزلة، أو ما يسمى بالمنطقة اللسانية المحافظة.
وهناك يبحثون عن مخبرين قليلي الاحتكاك بالعالم الخارجي، كالكبار في السن من الرجال والنساء الأميين والأميات، وكان همّ الباحث، الحصول على أنماط لسانية محافظة منتظمة لتفسير الكثير من المعطيات في اللسانيات التاريخية.
ولم تكن دراسة التفاعل والتداخل والترابط بين اللسانيات والعوامل المجتمعية من بين أهدافهم، قدر ما كان هدفهم، دراسة التوزيع الجغرافي للسمات اللسانية وبالتالي رسم الحدود الفاصلة في الخرائط اللسانية.
أما الجيل الثاني من الأطالس المعاصرة، فمن أهم النتائج التي توصل إليها، وما تحقق بفضله في مجال الخرائط اللسانية، أن مفهوم الحدود اللهجية الدقيقة، قد عوضه مفهوم المناطق الانتقالية التي تختلف فيما بينها اختلافا كبيراً تبعا للظروف الجغرافية والاقتصادية والسياسية والمجتمعية.
وبفضل هذه المرحلة وصلت الدراسات اللسانية إلى ما وصلت إليه اليوم إذ قلبت رأسا على عقب وجهات النظر المتبناة سابقا، في أبحاث تاريخ اللسانيات.
2.2- أطالس اللسانيات العربية
ظهرت محاولات لوضع أطالس لسان المجتمع العربي، ومن بين هذه المحاولات، "أطلس سوريا وفلسطين" ويضم 42 خريطة في الظواهر الصوتية، من عينات 68 منطقة(4) .
وبعده " أطلس لهجات حوران" يشتمل على 60 خريطة، من عينات 119 منطقة غنية من حيث التحليل الصوتي، والمعجمي(5).
وظهرت كذلك دراسة فنولوجية للهجات المناطق الشرقية لمصر والجزائر (6) والمغرب (7) ولبنان(8).
إن هذه الدراسات، والخرائط أقل عمقاً وتفصيلا من أطلس حوران، غير أن هذه المرحلة التاريخية، من الأطالس، أفرزت مرحلة أخرى، أكثر عمقا،  تزعمها في الشرق " رابين" بدراسته حول: "لهجات الجزيرة العربية (9). وفي الدول المغاربية مرسي كوهن، (10) ودفيدكوهن (11).
إلا أن رابين في كتابه: " لهجات شمال الجزيرة العربية"، كان يهدف إلى إرجاع كل الاختلاف والتباين اللهجي، إلى الاختلاف بين اللهجتين: الحجازية والتميمية، وأنه لا يعلم إلا القليل جداً عن سواهما (12)، ولذلك لم يأخذ غيرهما في الاعتبار، وأن اللهجات العربية عنده، تقوم على تلك الكتلتين؛ الشرقية والغربية، مهملا ما عداهما.
والحق، أننا نرى؛ أن دراسة اللسانيات على أساس هذا التقسيم، لا يرضي البحث اللساني المعاصر، لأن كلمة الشرق والغرب أو الحجاز وتميم كلها أسماء مشوهة الحدود، في وحدات ضخمة شاسعة، وأن الحجاز وتميم، كلتيهما من القبائل الكبرى، ذات الفروع والبطون العديدة، وكثيرا ما نجد لهجات الفروع، تخالف لهجات القبائل الأم، ثم إن بعض بطون هذه القبائل، نفرت عنها وعاشت في أماكن عديدة.
فدراسة اللهجات عن طريق تلك الوحدات الكبيرة، فيها خطورة وخروج عن المنهج العلمي السليم.
وإذا كنا سندرس ونوجه أنظارنا إلى الاختلاف بين الكتلتين الحجازية والتميمية فقط، فإن معنى  هذا، أننا سنضع جانبا ما عداهما من السمات اللسانية المتعددة للقبائل الأخرى، وتكون الدراسة قاصرة ومحدودة، ولا تمثل اللهجات العربية تمثيلا صحيحاً، وتضيع منا نتائج حاسمة في الدراسات اللسانية ونحرم من ثمرات بينة لسانية، نتيجة الإهمال للهجات متعددة، بعد ما ضاع أكثرها، وذهبت به الأيام إلى أماكن نائية.
إلا أن مدرسة " مرسي" ودفيد كوهن" حاولت أن تتدارك هذا النقص، بدراسة اللهجات المغاربية عن طريق الوحدات الصغرى، سواء في الدراسات التي أنجزاها، أو التي أنجزها من تكوّن في مدرستهما.
وقد صدر في سنة 1986 أطلسان لغويان لمصر واليمن،للباحث الألماني بينشتيد (P.BEHNSTED)(13) بعد دراسته لعينات من اللهجات المصرية جمعها من مختلف المناطق، خلال إقامتة في مصر بتعاون مع طلاب مصريين من جامعة الإسكندرية، جمع 700 عينة، من بين القرى والمدن المصرية، واستخرج منها 400 ظاهرة صوتية وصرفية موزعة على 561 خريطة من الحجم المتوسط.
أما أطلس اليمن فهو عبارة عن 168 خريطة لسانية من عينات 150 نقطة ولايزال يتابع دراستها ومقارنتها. ويبدو لنا، فيما وصلنا إلى حد الآن، أن بينشتيد، في هذين الأطلسين، قد خلط في دراسته بين اللهجات الإقليمية واللهجات المجتمعية في استنتاجاته.
وهكذا نرى أن المناهج المتبعة في تلك الأطالس اللسانية، والفرضيات التي بنيت عليها، كانت موضوع نقد عند العاملين في حقل اللسانيات المجتمعية حديثا، ولهذا كان لنا أن نتجه اتجاها آخر في المنهج مستفيدين مما سبق ذكره، ما دامت هذه المناهج قد أخفقت في حل الإشكالات المثارة حديثا، فإن الأمانة العلمية تدفعنا إلى القول، بأن مشاكلنا التي نواجهها في اللسانيات اليوم، لم تكن تواجه علماء البارحة. إننا نؤمن اليوم  بأن العلاقة قائمة بين اللسانيات وبين بيئتها الجغرافية والحرفية، وكثيرا من خصائص الأقاليم، تنطبع في لغة قاطنيها، بسبب اختلاف المنطقة واختلاف السكن والنزوح والاستقرار؛ واللسان يظل خاضعا للحياة في تطورها الذي لا ينتهي إلى حد.
وقد كان لتطور وضع الدراسات في اللسانيات الوصفية، ووضع الأطالس اللسانية في الدول الأوروبية، كما أشرنا إلى ذلك، أثره الواضح في الاهتمام باللسانيات العربية الحديثة، ودراستها من طرف العرب أنفسهم، فقد نص القانون المؤسس لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، الصادر سنة 1932 على أن " من أغراض هذا المجمع أن ينظم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة في الدول العربية" (14).
3- الأسس المنهجية لأطلس لسان المجتمع العربي:
المنهج الذي سنحاول تطبيقه في إنجاز هذا المشروع اللساني القيم، يستفيد من كل ما قدمته تلك المحاولات السابقة من اجتهاد في الأساليب المقترحة في  الدراسات اللسانية، الحديثة والمعاصرة، والتي تناولت بالدرس والبحث، مجتمعات لسانية كثيرة، في العالم العربي وأوروبا وأمريكا بتبني أساليب علمية تتيح دراسة اللسان بوسائل متطورة، اعتمادا على ملاحظات موضوعية في إطار نظرية شاملة متكاملة.
ويتلخص هذا المنهج، في جمع المعلومات اللسانية الممثلة من عينات لهجية وتحليلها، تحليلا كميا، لتحديد طبيعة التوزيع اللساني، جغرافيا ومجتمعيا، وتحديد كثافة التوزيع كما يفعل عالم الجغرافية، في دراسة الكثافة السكانية، وطبيعة الانتشار واتجاهاته، ورسم خرائط أولية، وربط الانتشار والتوزيع بالعوامل التاريخية والنزوح، أي : بما يمكن أن نسميه العوامل الخارجية.ثم ربط العوامل الخارجية، بالعوامل المختلفة،كالمتغيرات المجتمعية، ودراستها ضمن الإطار المجتمعي اللساني، بالإضافة إلى الإطار الجغرافي.
ومن أمثلة تفاعل التوزيع الجغرافي واللساني، ما نراه من وضع في الدول المغاربية، حيث نجد أن اللهجات المدنية في الرباط، والجزائر، وتونس، وطرابلس، أقرب إلى بعضها، من اللهجات في الأرياف والبوادي والقرى في تلك الدول، كما نرى التقارب في اللهجات البدوية في معظم الدول العربية. وكذلك الأمازيغية، ولهجاتها، في الدول المغاربية، وهذا يعني أن التوزيع المجتمعي للهجات، قطع الحدود الجغرافية، والسياسية ولم يقف عندها.
واللبنة الأساسية في منهجنا المختار لها ثلاثة أركان:
1- تحديد المجمتع المنْوي دراسته جغرافيا وتاريخيا.
2- تحديد أبعاد المتغيرات الجغرافية والمجتمعية التي تؤثر في اللسانيات وتصنيف المتغيرات.
3- تحديد حجم العينات بعدد الأشخاص، وتحديد انتمائهم المجتمعي وسنعرض بتفصيل هذه الأركان حسب الأولويات التالية:
1.1- تحديد المنطقة جغرافيا ومجتمعيا:
وهنا تختلف الحدود من منطقة إلى أخرى، ففي القرى يمكن اعتبار القرية بأبعادها الجغرافية، وحدة منفردة، واختيار عينة منها على هذا الأساس. وقد تكون هذه الوحدة، مكونة من عدد القرى التي تقع ضمن منطقة جغرافية واحدة، تربطها علاقات مجتمعية مختلفة، خاصة مع وجود نظام القبائل والعشائر، وكثيرا ما يكون أفراد العشيرة أو القبيلة الواحدة، يقطنون أكثر من قرية متجاورة، وهنا يدخل عنصر العرق والأصل، في التحديد المجتمعي. وأحيانا كثيرة تشكل نفس القرية وحدتين أو أكثر، كأن نقول مثلا، أولاد بوعزي وبنوهلال، الذين ينتسبون إلى وحدات قبلية مختلفة ويقطنون قرية واحدة.
وقد اختلف علماء اللغة والباحثون في مجال الأطالس اللسانية، وفي مجال دراسة اللهجات بصفة عامة في تحديد  الوحدة المجتمعية المناسبة لاتخاذها أساسا لدراسة اللهجة، وخاصة في مجتمعات المدن المعقدة، التي تختلف كثيرا في طبيعة تركيبها المجتمعي، عن القبائل المغاربية والعربية القديمة.
فالوضع مختلف أيضا، حيث عدم التجانس المجتمعي والمكاني. ولتحديد الجماعة أو المنطقة التي يمكن دراستها كوحدة لسانية، هناك أكثر من مدخل اتبعه العلماء في أبحاثهم، ويمكن بدورنا أن نختار منها ما يناسب أغراضنا. وأهم هذه المداخل:
1.1.1- تقسيم المدينة  إلى مناطق جغرافية مجتمعية، حيث يتلازم أحيانا كثيرة التوزيع الجغرافي للسكان وتوزيعهم المجتمعي، كأن تميز في المدينة، مناطق سكنية مدرجة في التصنيف التالي:(أ.ب.ج) حسب الموقع الجغرافي وطبيعة البناء، المرتبطة ارتباطا وثيقا بالعوامل المجتمعية، حيث من الغالب أن تكون منطقة مكونة من الأحياء الراقية في المدينة، والتي يقطنها فئات من الطبقات الوسطى والعليا.
1.1.2- وحديثا يعتمد ما يسمى بالشبكة المجتمعية، يتخذ الفرد الواحد كمركز لانطلاق البحث، ورسم خريطة لعلاقاته واتصالاته، المباشرة وغير المباشرة، وينتج عن ذلك شبكة تربطها علاقات مميزة . وهذا ما يجعل أفراد تلك المجموعات، أكثر تجانسا وأقرب إلى بعضهم ويجعلهم يشتركون في استعمال وتفسير الأنماط اللسانية المتشابهة، لأن الفرد يحاول دائما خلق أسلوب لساني خاص به، يمكنه من التكيف مع المجموعات التي يتصل بها وهو يحاول دائما بناء شبكة اتصالات خاصة به، ومثل تلك الشبكة اللسانية، كثيرا ما تتحدى الحدود الجغرافية للهجة.
1.1.3- الجماعة اللسانية:وقد اختلف الباحثون في تعريفها وتحديدها، وأكثر التعاريف قبولا وشمولية، التعريف القائل بأنها تلك المجموعة السكانية التي يشترك أفرادها في استعمال لهجة ما، ويشتركون في استعمال قواعدها، بجانب ذلك، يشتركون في الأنماط الثقافية، والحضارية والمجتمعية، ولهم نفس العادات والتقاليد، ويتشابهون في تقييمهم ومواقفهم من الأنماط اللسانية السائدة (16) .
ويختلف حجم تلك المجموعة حيث يمكن اعتبار أحد أحياء عاصمتنا الرباط مثلا جماعة لسانية.
وفي اعتقادنا أن كل هذه المداخل تلتقي في نقطة واحدة، وهي أنها جميعها تحاول البحث عن جماعة سكنية، تشترك في ملامح وطبائع مجتمعية معينة، ويتعايش بعضها مع بعض، بحيث يحصل الاتصال والتبادل وبالتالي الاشتراك في أنماط لسانية، وتعتمد صعوبة وسهولة وجدوى تطبيق كل منها على المنطقة المنْوي دراستها.
فالشبكة المجتمعية يمكن استعمالها بنجاح في دراسة الفئات المهنية، كالدرَّازِين،والمحامين والأطباء، والفلاحين، وعمال الزراعة، حيث لكل مهنة نقابة تشكل نقطة الالتقاء فيما بينهم من مصالح مشتركة تؤدي إلى الاحتكاك والاتصال، بين أفراد تلك الفئات أكثر من غيرهم.
ومن الملاحظ أن هذا النظام قد تطور مؤخرا في كثير من الدول العربية إلى مشاريع إسكان خاصة بأفراد المهنة الواحدة، فهناك على سبيل المثال في كثير من المدن كالرباط والدار البيضاء تعاونيات إسكان خاصة بالأطباء، وأخرى بالمهندسين والأساتذة والقضاة إلى آخر القائمة.
وقد شملت مشاريع الإسكان الفئات المتساوية في الدخل السنوي، فهناك إسكان خاص بذوي الدخل المحدود، وإسكان ذوي الدخل المتوسط، وكمثال على هذا ما ستكون عليه مدينة سلا الجديدة.
وفي تقديرنا أن مثل تلك المشاريع التعاونية على الرغم من حداثتها عندنا في المغرب وتونس، من الأهمية بمكان في الدراسات اللسانية المستقبلية، حيث تلتقي المتغيرات المجتمعية الجغرافية، وسيساهم ذلك، في التصنيف المجتمعي، والاقتصادي للسكان.
ولابد هنا من الإشارة، إلى أن ما يحدث عادة في المراحل الأولى، من المناطق السكنية الجديدة مثل مشاريع التعاونيات والأحياء الإدارية، خاصة تلك التي تخص أفراد الطبقات الوسطى، يختلف عما يحدث، في الأحياء السكنية القديمة، التي تكون قد طورت نمطا معينا من العلاقات والطباع، مجتمعيا وسلوكيا ولسانيا.
وفي الغالب، فإن سكان المناطق الجديدة ليس بينهم وبين جيرانهم اتصال أو علاقات مجتمعية وطيدة، وفي المقابل فإن هؤلاء السكان، قد يستمرون ولو لفترة، في علاقاتهم القائمة مع أناس من خارج سكناهم الجديدة.
وقد تساعد طبيعة بناء المساكن، على العزلة أو التقارب المجتمعي، فالبيوت المنفصلة المسورة كفيلاّت حي سويسي بمدينة الرباط، والوزير وأنفا بالدار البيضاء والأحياء الراقية المجاورة لها؛ تساعد على العزلة ويمكن في هذه الحالة، استعمال مدخل الشبكة المجتمعية، بالإضافة إلى المدخل التقليدي.
أما المدن العريقة كفاس، وتطوان، وسلا، ومراكش، وتلمسان، والقيروان وطرابلس، وتونس والقاهرة وحلب، وغيرها من المدن العربية العتيقة، التي مضى على تأسيسها زمن طويل، فالغالب هو  تقسيم المدينة، إلى مناطق جغرافية منتظمة، باعتماد التقسيم الجغرافي، الذي تتبعه البلديات والولايات في تقسيم المقاطعات.
وبهذا يتمكن الباحث من دراسة أثر التوزيع الجغرافي والمجتمعي على اللسان حيث يتلازم التقسيم الجغرافي في تلك المدن مع التقسيم المجتمعي. وعلى الباحث أن يدرك دائما أن الانتماء المجتمعي يكون ضعيفا عند الأفراد كثيري الحركة والترحال، حيث يبتعد هؤلاء ، في الغالب عن لهجاتهم الأصلية ويكتسبون خصائص لسانية جديدة.
4- تحديد المتغيرات المجتمعية
بعد تحديد الجماعة اللسانية المنوي دراستها مجتمعيا، وجغرافيا، علينا أن نحدد المتغيرات المختلفة التي تؤثر في السلوك اللساني وتؤدي إلى الاختلاف والتنوع.
إن لكل فرد موقعه في المجتمع، وإن هناك تفاعلا مستمرا بين الأنماط المجتمعية المختلفة، واللسان أحد تلك الأنماط، وتختلف المتغيرات باختلاف المجتمعات وفي الغالب فإن المتغيرات الآتية مهمة في البحث اللساني:

1.4- الجنس: فقد تبين أن هناك فروقا واضحة بين الأنماط اللسانية السائدة بين النساء والرجال، فالرجال أقل حساسية من النساء، للضغوط المجتمعية واهتماما بالمظاهر، كالأزياء،وطرائق النطق، والنساء  يملن دائما إلى استعمال السمات اللسانية التي تقيم مجتمعيا بأنها أرقى.
وقد وجد الباحثون الغربيون أن النساء في المجتمعات الغربية أكثر استعمالا للسان الفصيح الذي يعتبر أرقى مجتمعيا، أما في المجتمعات العربية، فإن النساء أكثر استعمالا للسمات المميزة للسان المديني حيث يعتبر أرقى مجتمعيا.
2.4- العمر:ويعتبر العمر من المتغيرات المجتمعية المهمة، في الدراسات اللسانية، وخاصة إذا كان الباحث مهتما بدراسة المتغيرات اللهجية، وتحديد أسبابها، وكذلك لمن يهتم بالتراث والتقويم.
فكبار السن مثلا يمكن اعتبارهم مصدرا من المصادر اللهجية الأصيلة، حيث يحتفظ الكثير منهم بالسمات اللسانية الأصيلة، ويمكن أيضا اعتبارهم المعيار أو المقياس للتغير والتنوع اللساني.
فلو أخذنا عيِّنات ممثلة لمختلف الأعمار، لأمكننا اعتبار لهجة الكبار في السن نقطة البداية التي منها نقيس مقدار مدى التغير والتنوع اللساني، وقد أثبتت الدراسات الحديثة أهمية ذلك في أ كثر من موقع.
3.4- الوضع المجتمعي: وهو تقسيم المجتمع إلى فئات أو طبقات، حسب وضعهم؛ كالطبقة العليا والوسطى والعاملة. ويختلف الدارسون في تحديد المعايير المستعملة في التقسيم المجتمعي، باختلاف المجتمعات وأنماطها الحضارية، والثقافية. وعلى الباحث المتحري تحديد طبيعة التقسيم، في المحيط الذي ينوي دراسته، إذا كان التقسيم ينعكس على السلوك اللساني. وقد وجد العاملون في هذا الحقل، أن الوضع المجتمعي مهم في التغير والتنوع اللساني، فقد وجدوا  أنه كلما ارتفعت الطبقة المجتمعية، زاد استعمال الفصحى، وإن الأفراد من الطبقات العليا والوسطى يميلون إلى استعمال سمات لسانية من اللغة الفصحى، بشكل عام. فقد وجدت الدراسات علاقات بين الفئة التي ينتمي إليها الفرد، والأنماط اللسانية التي يستعملها. ويعتبر هذا المتغير من الأهمية بمكان، في الإجابة عن كثير من الأسئلة مثل:
- ما هي الطبقة التي تجدد في اللسان؟ وكيف يتم الانتشار؟
- ما هي مبررات الاقتراض داخل اللغة الواحدة؟.
وقد تحدث (بلومفيلد) عن ذلك حين قال: " إن الأنماط اللسانية الجديدة غالبا ما تبدأ في الانتشار بين أفراد الطبقات العليا ومنهم يقترضها أفراد الطبقات الأدنى"(17).
إلا أنه يحدث العكس، في المجتمعات الأخرى، أي أن أفراد الطبقات العليا، أكثر محافظة على الأنماط اللسانية القديمة، وأكثر معارضة للأنماط الجديدة التي تميز اللهجات(18) .
4-4- التعليم والوظيفة: كثير ما يرتبط هذان المتغيران بالمتغير الثالث وهو الوضع المجتمعي، حيث يمكن استعمالها معايير للتقسيم، وخاصة في المجتمعات التي توجد فيها الازدواجية، إذ يكون جيل المتعلمين في تلك المجتمعات، أكثر احتكاكا باللغة التي تعلم بها، كالفرنسية مثلا بالنسبة للمغاربيين والإنجليزية بالنسبة للمشارقة ولذا فهم أكثر استعمالا لها، وهذا مايؤثر على حصيلتهم، عكس المتعلمين باللغة العربية،ويؤدي التالي إلى ظهور أنماط لسانية جديدة، تميزهم عن غيرهم كالمزج بين لغتين، لغة الأم ولغة التعليم. ويؤدي ذلك إلى اختفاء اللهجة القديمة وظهور لهجات جديدة ، أو على الأقل تضعف الحدود والفواصل اللسانية القديمة، ويحل محلها فواصل من نوع جديد.
وكثيرا ما يملي المركز الوظيفي على صاحبه أسلوبا ونمطا مجتمعيا معينا وعلى الفرد أن يعيش ضمن ذلك الإطار الجديد ويتكيف معه (19) .
5.4- الأصل: ويعد هذا المتغير مهما في الدراسات اللسانية في المجتمعات ذات التركيب المعقد، ومن أصول مختلفة أو جنسيات مختلفة، كالمغرب العربي ومختلف الدول العربية، ويمكننا في هذه الحالة أن نعتمد تقسيمات كثيرة، حسب الأصل والخلفية الحضارية، وأكثر هذه التقسيمات شهرة وأهمية هو التقسيم التقليدي: البادية، والريف، وسكان المدن.
وقديما ميز علماء اللسانيات العرب بين لهجات البدو والحضر والأرياف، ووصفوا لهجات البدو بالمحافظة، على عكس اللهجات الحضرية، التي تتميز بأنها خليط ومزيج من لهجات ولسانيات مختلفة.
وقد أفردوا دراسات لتبيان الفروق بين تلك اللهجات، ومدى تأثر اللسان بكون الفرد بدويا أو حضريا، وقال بعضهم: إن الضم في اللغة من صفات سكان الحضر لبخلهم، والفتح في اللغة، من صفات البدو لكرمهم (20).
6.4- العامل السياسي: ويدرس الباحث هنا أثر الأنماط الاستعمارية واللسانيات الأجنبية، المستعملة تبعا لذلك، وأثرها في اللسانيات العربية.
ومن جهة أخرى، أدى الاستقلال السياسي، والانقسام في الدول العربية، إلى الانفصال المجتمعي والثقافي، وهذا أكثر خطورة على اللسان.
هذه بعض العوامل المجتعمية التي قد تؤثر في التوزيع، ولا يعني هذا بالضرورة استثناء عوامل أخرى، كالانتماءات السياسية، والحزبية والدينية والاقتصادية، كدخول المرأة ميدان العمل، أو الانتقال من مجتمعات زراعية إلى مجتمعات صناعية وتجارية، وهي غالبا ما تؤثر في الخرائط اللسانية.
5. تحديد المتغير اللساني: يمكن للباحث المتحري   عادة التعرف على السمات اللسانية التي تستحق الدراسة والبحث كونها تميز مجتمعا، من حيث التنوع تسمح بتوزيعها جغرافيا ومجتعميا. وقد سميت تلك السمات بالمتغير اللساني،وتعرف بأنها:السمة اللسانية التي يكون لها أكثر من شكل لغوي حيث يكون للفرد الخيار في استعمال الشكل الذي يتلاءم مع وضعه الاجتماعي،أو الجغرافي أو مع الأسلوب والمواقف. (21)
وتحديد هذا المتغير يكون بتحديد أشكاله المختلفة، وموقعها في الكلام والسمات المجاورة له في الكلام،وتحديد وظيفته اللسانية ومدلوله اللغوي والمجتعمي والأسلوبي، ويتم ذلك من خلال دراسة ميدانية لعينة استطلاعية، يقوم الباحث المتحري بجمعها مسبقا.
1.5- اختيار العينة الممثلة: بعد تحديد العوامل التي تتغير لسانيا ومجتمعيا، يقوم المتحري بعملية اختيار العينة الممثلة لتلك العوامل. والقرار الأول الذي يواجهنا هنا هو تحديد حجم العينة الممثلة واللازمة لدراسة أنماط السلوك المجتمعية الأخرى.
ولتحديد حجم العينة، لا بد من توفر بعض الشروط الأساسية ومنها:
2.1.5- أن يكون عدد المخبرين معقولا، بحيث يتمكن الباحث ومساعدوه من إجراء المقابلات اللازمة معهم وجمع المعلومات منهم، ضمن مدة معقولة، بحيث يضمن أيضا قدرته مع فريقه على تحليلها.
3.1.5- أن تكون العينة ممثلة لكل المتغيرات المجتمعية أو الجغرافية، التي ينوي الباحث استعمالها في بحثه ولا بد هنا من رسم خريطة لتوزيع أفراد العينة، بحيث تضمن التغطية الكاملة والسليمة للمجتمع المغاربي والعربي.
ويبدو أن هناك اتفاقا حول عدد المخبرين في كل خلية، بحيث لا يقل عن اثنين، ولا يزيد عن خمسة ولا يغيب عن أذهاننا أن توزيع التمثيل، يجب أن يعتمد بشكل أو بآخر، على كثافة الأفراد في خلية ما.
فعلى سبيل المثال، لو أخذنا سكان مدينة الرباط، لوجدنا أن عدد صغار السن  المتعلمين أكبر بكثير من صغار السن غير المتعلمين، أو حتى من كبار السن المتعلمين.
4.1.5- أن يكون المخبرون قد أقاموا في المنطقة المنوي دراسة  لسانها مدة زمنية طويلة، لاتقل عن خمس عشرة سنة، أو ولدوا في تلك المنطقة، أو هاجروا إليها في سن الطفولة المبكرة، وهي سن اكتساب اللغة. أي ما بين السن الخامسة والثانية عشرة، وتوفر مثل هذا الشرط مهم، لضمان تأثر هؤلاء الأفراد بالعادات والأنماط المجتمعية، السائدة في المنطقة وبالتالي يكونون قد اكتسبوا اللهجة المنطوقة هناك.
5.1.5- أن يكون اختيارهم عشوائيا، بحيث  تكون الفرص متساوية في اختيار أي فرد من نفس الفئة المجتمعية، في المنطقة، ويجب الابتعاد ما أمكن عن دائرة الأصدقاء، والمعارف لأن ذلك قد يسبب الابتعاد عن الموضوعية.
6.- ربط العلاقة مع المخبرين
وبعد رسم خرائط توزيع المخبرين، تبدأ مرحلة البحث الميداني بدخول الباحث ميدان التطبيق، وإجراء الاتصالات مع السكان في المنطقة، لتحديد واختيار الأشخاص المناسبين الذين يمثلون العينة المختارة، وقد يضطر الباحث إلى إجراء اتصالات مع عدد كبير من المخبرين، ليضمن حصوله على العدد المطلوب ويبدأ في بناء الجسور والعلاقات مع المخبرين بزيارتهم والتعرف عليهم، ليضمن تعاونهم، وليخفف من وقع الجور الرسمي على المقابلات بحيث يضمن الحصول على عينات من لهجة الأفراد الطبيعية، التي يستعملونها في حياتهم اليومية.
وعلى المتحري هنا أن يستعمل ذكاءه في توفير الجو العام المناسب، ليجعل المقابلة تسير في طريق سليم يؤدي إلى تزويده بالمعلومات اللسانية المطلوبة دون تكلف.
7.-اختيار الأسئلة خارج الاستبيان
عند إجراء المقابلات، على الباحث أن يكون حريصا على اختيار الأسئلة التي يطرحها خارج الاستبيان، بحيث تكون الأسئلة:
1.7- لا تتطلب إجابة طويلة، ولا يجاب عنها بنعم أو لا.
2.7- تتناول مواضيع تهم المخبرين
3.7- تؤدي إلى حديث مطول.
4.7- تساعد المتحدث على التحرر من القيود الرسمية للمقابلة، والتحدث بطلاقة وبشكل طبيعي.
5.7- تجنب إثارة المواضيع ذات الطبيعة الحساسة، أو التي تثير شكوك ومخاوف المتحدث، ويمكن التغلب على الجو الرسمي للمقابلة، بإجرائها بحضور أناس آخرين من معارف المخبر وأصدقائه، أو عائلته، أو اختيار مكان مناسب لإجرائها وقد يستفيد من متابعة المخبرين وجمع المعلومات منهم في أكثر من مناسبة في الزمان والمكان.
8- حجم العينة اللسانية التي يجب الحصول عليها:
اختلف العلماء، حول حجم العينة المطلوب الحصول عليها من الشخص الواحد، ويرجع ذلك إلى اختلاف المتغير اللساني المنوي دراسته واختلاف نسب وقوعه وتكراره في النص المسجل، فهناك من يعتبر عشرة أو عشرين حالة تكرار من نفس المتغير كافية للدراسة.
ويختلف آخرون بقولهم: أنه كلما زاد عدد حالات التكرار، كانت النتائج أكثر دقة وأقرب إلى النمط المتوقع للمجموعة.
والبعض الآخر يرى أنه لا يوجد مقياس ثابت لذلك، حيث يعتمد حجم العينة على كثافة وقوع المتغير اللساني، فبعض المتغيرات متكررة وبعضها الآخر نادر التكرار.
ونرى أن هذا القول الأخير أقرب إلى التطبيق، والمنطق.
9- التحليل ووضع الخرائط اللسانية:
وبعد جمع المعلومات اللازمة حسب ما حددناه، نبدأ بتحليلها باستعمال أسلوب التحليل الكمي، ويقضي ذلك إيجاد نسب المتغير الواحد من كل متغير لساني وربطه بالمتغير المجتمعي.
ويستطيع الباحث أن يرصد المتغيرات بشكل فردي، ودراسة توزيع كل منها،  مجتمعيا وجغرافيا حسب الأقاليم والمناطق وتصنيف اللهجات مما يساعد على دراسة التنوع اللهجي والمتغير اللساني واتجاهاته، وأثر اللهجات في بعضها، ومدى تفاعلها مع العربية الفصحى.
وبهذا نجني الفوائد الكثيرة من وضع أطلس لسان المجتمع المغاربي والعربي للهجات العربية المعاصرة، مما يساعد على اكتشاف المصطلحات العربية الموحدة التي يفهمها الجميع من المحيط إلى الخليج.
وبعد هذا، نرصد تلك النسب التي تبين توزيع المتغيرات اللسانية، وكثافتها وعلاقتها بمختلف العوامل المجتمعية، مما يمكّن من إعطاء صورة حقيقية ودقيقة، عن الوضعية اللهجية السائدة في عالمنا المغاربي بصفة خاصة،والعالم العربي بصفة عامة،مما يسهم في وصف التنوع والتغير المميز.
ونتيجة لذلك نتمكن من اكتشاف الأنماط المميزة  في مجتمعاتنا، ومقارنتها بالأنماط السائدة في المجتمعات العربية المجاورة. عندها، نتمكن من رسم الخرائط اللسانية المنشودة، بحيث لا نغفل عن الكثير من الحقائق.
وستبين لنا مثل هذه الخرائط، كثافة التوزيع والانتشار الطبيعي للسمات اللسانية، وتداخلها وتمازجها، كما تصور المنطوق من اللهجات من الزاوية المجتمعية، وتبرز الظواهر اللهجية، بوضعها في مكانها الصحيح على الخرائط اللسانية.
وتطبيقا لهذا المنهج، الذي يعتمد على دراسة اللسانيات: مجتمعيا وجغرافيا، يمكن الوصول إلى فهم القواعد التي تربط اللسانيات العربية المعاصرة بعضها  ببعض واكتشاف الفصيح منها، مما يفيدنا في الدراسات المقارنة من أجل الوصول إلى ما يسمى باللسان الشامل الذي يساعد على التفاهم والتقارب بين الشعوب المغاربية والعربية.
وفي سبيل إنجاز هذا المشروع العلمي المتميز بواسطة المعلوميات، وضعنا رسوما بيانية لرسم الخرائط اللسانية على مراحل، مع مخطط معلومياتي لطريقة المقارنة المعجمية، واللهجية على مستويات:
المجال اللساني، الهدف، والمطلوب. والمجال السوسيو لساني.
الهدف والمطلوب، في المستوى الأول والمستوى الثاني ( أنظر الهوامش)
الهوامش:
1- بدأ (Wenker) العمل في أطلس ألماني في سنة 1876 إلا أن عمله هذا لم يتحقق على يده، بل تحقق على يد تلميذه Wrede حيث عمل على نشر أطلس لسان ألمانيا، وحسن منهاجه، وظهر تحت اسم(Deutscher sprachetlas) سنة 1926.
2-كان رائد هذا المشروع القس (P.J. Rousselot) الذي أسس 1887 مع Gilliéron مجلة (اللهجات الغالية الرومانية) وقد أتم جيليرو مشروع الأطلس الفرنسي مع مساعده (Edmond Edmont) وبدأ نشره من سنة 1902 إلى سنة 1910.
3- ظهر أطلس الولايات المتحدة الأمريكية وكندا 1939-1943 وأطلس فنلندا سنة 1940.
4- Rebin, Ancien west arabian ; London 1950.
5 - BERGSTRASSER. Gottlef
      Sprochattes von Syrien und Palastina, Leipzig 1915.
6- المصدر السابق ص14/ المجلد الأول
7- CAQUOT. André et Cohen
(Eds) L’état actuel des recherches Linguistiques en Tunisie, in Actes du Premier, Congrès International de Linguistique Sémitique et chamito-sémitique, Paris 1969 Mounton, La Hay.
8- COHEN, David Pour un atlas Linguistique et socio- linguistique de l’arabe D.S.L) Rabat 1986-89.
9- COLIN, Georges  S. Notes de dialectologie in Hespéris : 11, 1930.
10- المصدر السابق
11- المصدر السابق
12-H. Rebin, Ancien West Arabian,London 1950
13- Les atlas linguistiques de l’Egypte et de Yémén.
14- أنظر قرارات مجمع اللغة العربية (مجلة المجمع)
15- أنظر دراسات وحدة الأطلس اللساني بشعبة اللسانيات المجتمعية، التي أنجزها الكاتب. وكذلك:
الأسس المنهجية لأطلس لسان المجتمعات العربية سلسلة من العروض ألقيت في مواسم النشاط الثقافي والعلمي، المنظمة من طرف مديرية الدراسات بمعهد الدراسات والأبحاث للتعريب، للأستاذ إبراهيم الخطابي. وكذلك:
W. Labov: The Social Stratification of English. in New-York city.
16- BOUVERESS J. signification, actes propositionnels  et actes illocutionnaires, Minuit, Paris, 1971.
17- GREIMAS A.J. Des modèles théoriques en sociolinguistique, in International Days of sociolinguistics, 1969.
18- تمام حسان وإبراهيم أنيس: اللغة والمجتمع، ترجمة ل.م.م. لويس، دار احياء الكتب العربية1959.
وعبد الواحد وافي: اللغة والمجتمع، دار نهضة مصر، للطباعة والنشر 1971.
19-DUCROT O. Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, Paris 1972.
20- SAUSSURE F, cours de linguistique générale, Paris, 1965.
         OWENS, Jonathan; A short reference Grammar of est Eastern Arabic; Wiesbaden ; Otto Harrassowitz libyan.
21- R/ Hudson; Sociolinguistics; Cambridge, Can: univ-Pris.



(*) معهد الدراسات والأبحاث للتعريب ( الرباط)

http://www.google.dz/url?sa=t&rct=j&q=%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%B3+%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A9+%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D9%87%D8%AC%D9%8A%D8%A9+%D9%84%D8%A3%D8%B7%D9%84%D8%B3+%D9%84%D8%B3%D8%A7%D9%86+%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9+%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A&source=web&cd=2&ved=0CDUQFjAB&url=http%3A%2F%2Fwww.mohamedrabeea.com%2Fbooks%2Fbook1_185.doc&ei=K8oGUb3wJYqL4ASXhYDYBQ&usg=AFQjCNFep5ypfD1ZdBQxgCORj5S_uks3uw