الاثنين، 17 سبتمبر 2012

تأملات في فضاء الثقافة


تأملات في فضاء الثقافة

الثقافة والمثقف في الجزائر، وضعية وتساؤل؟

     كلمة (( ثقافة )) تتشعب مفاهيمها، و تتنوع مضامينها ،وتتعدد معالمها بتعدد الزوايا التي ينُظِر إليها من خلالها، و لكن رغم ذلك فقد ظل الإنسان و المجتمع هما المحورين اللذين تدور حولهما مختلف التعريفات و المفاهيم وما يهمنا من كل ذلك هو إستنتاج تعريف للثقافة يعكس مفهومنا لها .

فالثقافة هي كل ما يعكس النشاط الفكري الفردي أو الجماعي في شتى الميادين، على أن يكون ذلك النشا
ط مرتكزا على التراث بمقوماته و خصائصه، من عادات وتقاليد وأعراف، ومعارف ومعتقدات، بحيث يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع الذي يعيش فيه، وفي إطارها تتشكل شخصيته لتصبح محتوى ومضمون هذه الشخصية،وبدونها يتعذر استمرار هذه الشخصية بخصائصها ومقوماتها المتميزة وبذلك تصبح الثقافة هي هوية الشعوب، والرمز الدال عليها واللحن المميز لسنفونيتها، تعكسها مظاهر التعبير الإنساني من خلال الآداب و الفنون و المخترعات، وتعكس مظاهر الحياة بكل تفاصيلها. فالثقافة كما يقول _ المفكر مالك بن نبي- : (( ليست علما خاصا لطبقة من الشعب دون أخرى بل هي دستور تتطلبه الحياة العامة ، بجميع ما فيها من ضروب التفكير و التنوع الاجتماعي))


ولا أجد تصورا أشمل لوظيفة الثقافة وأهميتها في المجتمع من تصور _ مالك بن نبي _ لها؛ حيث مثل وظيفتها في المجتمع بوظيفة الدم في الجسم: (( فهو يتركب من الكريات الحمراء والبيضاء وكلاهما يسبح في سائل واحد من " البلازما" ليغذي الجسد. والثقافة هي ذلك الدم في جسم المجتمع؛ يغذي حضارته، ويحمل أفكار "الصفوة" كما يحمل أفكار "العامة" ، وكل من هذه الأفكار منسجم في سائل واحد من الاستعدادات المتشابهة والاتجاهات الموحدة، والأذواق المتناسبة)).


فأهمية الثقافة في حياة الشعوب كأهمية الدم لحياة الإنسان ؛ فهي التي تحصن شخصية الفرد والأمة من الذوبان و الانحلال و تعطيها القوة و المتانة ، وتحميها من الانحراف .


فهي الذخر الذي تعود إليه الشعوب عند الحاجة، و هي السند الذي تعول عليه في وقت المحن، وهي الرصيد الحقيقي الذي يسندها عند الملمات ، وهي المعين الذي لا ينض، تنهل منه الأجيال فيعطيها سر الحياة و البقاء، و يؤمن لها الاستمرارية، ويحفظ لها الاستقرار .


في ظل هذا الدور الذي تلعبه الثقافة في حياة الأمم والشعوب, فإنه يجد ر بنا اليوم أن نتساءل عن وضعية الثقافة ودورها في مجتمعنا وعن مكانتها فيه .


إن المتأمل في ثقافتنا اليوم تأملا هادئا يدرك أنها تمر بأزمة حادة، تتمثل أهم مظاهرها في عدم القدرة على العطاء، وعلى التواصل مع طموحات المجتمع وأهدافه؛ ولعل ذلك يعود إلى أسباب عديدة، منها أنه لا يوجد مشروع ثقافي واضح المعالم، له أهداف يتوخى تحقيقها على المدى البعيد، مشروع نابع من مقومات وأصالة هذا المجتمع ، ومن انتمائه الحضاري، متفتح على الثقافات الإنسانية، يراعى فيه جوانب الفعالية والإبداع والتجدد، لا يتوقف عند طابع النقل والتقليد، أو التبعية المطلقة لثقافات أخرى، بل يأخذ ما هو أصيل وفعال في تراثنا, وما هو جديد وبنّاء في حاضرنا, على أن يكون متماشيا مع طموحات وأهداف المجتمع, حتى لا تكون هناك قطيعة بين الحركة الثقافية, وما يحلم به المجتمع من نمو وتطور.


ومجتمعاتنا العربية الصغيرة لها خصوصياتها التي ينبغي أن تراعي في أي مشروع, أو سياسة ثقافية, بحيث نبحث على جوانب التوافق والتكامل بين هذه الخصوصيات, لنصل في النهاية إلى وحدة المشروع, ووحدة الهدف, فيكون لهذا المشروع أبعاد هي: البعد الوطني, والبعد العربي الإسلامي, والبعد الإنساني, وهذه الأبعاد هي سلسلة مترابطة الحلقات, لا يمكن تجاوز إحدى حلقاتها, أو الاهتمام بإحداها على حساب الأخرى, بل كل لها أهميتها و دورها في هذه السلسلة.


فالبعد الوطني, مثلا, يجسد اهتمامنا بكل ما في أوطاننا من خصوصيات, وأحداث ومنجزات ورموز, و آمال وطموحات, وأهداف تسعى لتحقيقها من أجل الرقي والتطور؛ أي الاهتمام بالتاريخ البعيد والقريب بمفهومه الواسع والشامل، بقدر الاهتمام بالحاضر المعيش والمستقبل المنشود.


أما البعد العربي الإسلامي. فيجسد انتماءنا إلى الحضارة العربية الإسلامية التي شاركنا في صنعها, وأخذنا منها مقومات شخصيتنا, وأصالتنا, فصارت ثقافتنا امتدادا لمنتج هذه الحضارة, وكذلك انتماؤنا إلى ما يسمى اليوم بالعالم العربي الإسلامي الذي هو جزء منا ونحن جزء منه, فما يربطنا به الدين واللغة والتاريخ المشترك والمصير المشترك والجوار, والطموحات, والآمال, والأهداف ... إلخ.


أما البعد الإنساني, فيتجسد في علاقاتنا بثقافات الشعوب الأخرى التي لا تدخل في إطار البعدين, الأول, والثاني, فمن الضروري أن نتفتح على ما يجري في العالم من حولنا فنتعرف على ما تنتجه تلك الشعوب في شتى ميادين العلم والمعرفة, لنواكب ما يحدث فيها من تطور وتقدم, لنثري ثقافتنا بكل ما هو جديد وفعال, على أن يكون تفتحنا محسوبا ومدروسا؛ بحيث لا يكون على حساب هويتنا وثقافتنا, كما هو الحال اليوم, تفتحا يرجى من ورائه التعرف على تلك الثقافات, والأخذ منها قدر الحاجة دون أن تكون غاية في ذاتها تجعلنا ندخل في إطار التبعية التي تهدد كياننا – كما هو شأننا اليوم- أي الثقافة التي نختارها وليست التي تفرض علينا فرضا، فإذا سرنا في هذا الاتجاه بخطى مرسومة, وأهداف معلومة, حققنا ذاتنا, بل حددنا هويتنا مع تفتحنا على الثقافات الإنسانية الأخرى.


عندما نصل إلى مشروع ثقافي تتفاعل فيه هذه الأبعاد وتتلاحم فإنه يمكننا أن نأمل في ثقافة متميزة, ثقافة أصيلة وواعية, ثقافة مدركة, ثقافة منتجة, ثقافة كالشجرة الطيبة, أصلها ثابت وفرعها في السماء تأتي أكلها كل حين, نسعد بنمائها, وننتعش باخضرارها ونستمتع بهوائها, ونستظل بظلها, فإذ حركنا أغصانها فلا نجني إلا ثمارها.


فإذا نظرنا إلى واقع ثقافتنا اليوم انطلاقا من هذا التصور, وجدنا أنها لا تحقق هذه الأبعاد مجتمعة في حركتها, بل تحقق بعضها مع إهمال بعضها الآخر, إلى جانب اشتمالها على كثير من التناقضات. ولعل هذا هو ما جعلها تتعثر ولا تتماشى مع طموحات وأهداف المجتمع, انحرفت عن مسارها الصحيح, وعن أهدافها المرجوة, فانحرف عنها المجتمع, وراح يبحث عن قيم وثقافات أخرى عله يجد فيها ما لم يجده في ثقافته التي شوهت. وهذا هو الذي جعل مجتمعاتنا تتعرض لهزات متتالية وتقلبات متوالية في العقود الأخيرة؛ لأن ثقافتها لم تكن في مستوى التطلع والطموح الذي تصبو إليه.


إذن فثقافتنا اليوم موزعة بين هذه الأبعاد, ولا تمثلها مجتمعة في تفاعلها وتلاحمها, فهي تقف في مفترق الطرق, عين إلى الوراء, وعين إلى الأمام, إما الاحتماء بالماضي بكل إنجازاته ورموزه, لأنه يعطيها نوعا من الثقة, وإما الانتماء إلى ثقافة الغرب, والارتماء في أحضانه لتصل من خلال ذلك إلى ما توصل إليه من تقدم وتطور. وبين هذا وذاك ظلت ثقافتنا بين مد وجزر يتجاذبها تياران, فلا استطاعت أن توفق بينهما ولا استطاعت أن تحقق أحدهما, فصارت مثالا للتقهقر, وصورة للتبعية والاستلاب, لأنها لم تستطع المواجهة ولا الصمود أمام ثقافة الغرب, ولأنها لم تكن محصنة, وكانت تحمل في ذاتها أسباب مرضها فأصيبت بمرض فقدان المناعة, فاختلط فيها الأصيل بالدخيل, والفعال بالهزيل, لأن الثقافة كالإنسان, تدخل الفيروسات في جسمها فتدمر كل ما هو أصيل وفعال فيها.


ولا تقوى أية ثقافة على رد تلك الفيروسات إلا إذا كان لها جهاز مناعة قوي, يرتكز على مقومات أساسية وثوابت أصيلة, تضرب بجذورها في أعماق التاريخ, لأنه لا يكتب البقاء ولا الامتداد إلا لكل ما هو ثابت في أصالته وقوي في فعاليته, أما الأفكار الدخيلة والأشياء المتغيرة فتظل غربية عن جسم المجتمع الذي يمثل تلك الثقافة, وغير ثابتة في حياته.


وثقافتنا حملت معها فيروسات من الماضي غرسها في جسدها استعمار بغيض, كما دخل جسدها فيروسات أخرى بفعل الغزو الثقافي, وباسم التطور والتقدم الزائف.


والحالة التي فيها ثقافتنا اليوم ما هي إلا صورة معبرة عن مجتمعنا, وما مجتمعنا إلا صورة صادقة لواقعنا الاقتصادي المتدهور, وحياتنا الاجتماعية والفكرية والثقافية المتأزمة, فلا ثقافتنا استطاعت أن تحصن مجتمعنا, ولا مجتمعنا استطاع أن يحمي ثقافتنا, فدخل الجميع غرفة الإنعاش, فهل أدركنا ذلك أم مازلنا نتوهم غير ذلك؟


فكيف ننتظر من ثقافتنا اليوم في ظل هذه الأزمة أن تغير الواقع, أو تطور المفاهيم أو تحرر العقول, لتتحر السواعد؟ فكيف تحقق ذلك؟ وهي مهددة الانتماء, فاقدة العطاء, يميزها الاندفاع, وقلة الإبداع, تنقصها الفعالية وتسودها الانفعالية وتحكمها الارتجالية, مترهلة تعاني من السقم وتشتكي من العقم.


كيف تحقق ذلك في ظل أوضاع اجتماعية مزرية يعشش فيها التخلف وتحكمها الأمية وتسودها التبعية, فوضع المثقف بفكره إذا أراد اختراق هذا الثلاثي الرهيب, لا يكون أحسن حالا من سيزيف وصخرته, فالأمية التعليمية تشل ثلث مجتمعاتنا, والأمية الثقافية تشل ثلثها الآخر, والتخلف والتبعية يتقاسمهما الجميع؟


كيف نحقق ذلك, ومؤسساتنا الثقافية والتعليمية عاجزة عن تأدية رسالتها ودورها الحضاري والتربوي, مما كرس سيادة نوع معين من الثقافة, يغلب عليه الطابع الشعبي والفلكلوري المبتذل الذي تمليه المناسبات, فصارت مؤسساتنا الثقافية في كثير من الأحيان عبارة عن مؤسسات فلكلورية لا تفتح أبوابها إلا في المناسبات, وليست مؤسسات للإشعاع الفكري والثقافي, مما يؤهلها لأن تكون رافدا من روافد ثقافتنا الأصيلة تثريها وتساعد في تنميتها وتطويرها. وقد أسهمت تلك المؤسسات في إيجاد جمهور فلكلوري يحب المتعة الآنية وكل ما يثير عواطفه وأشجانه, جمهور يتخيل أكثر مما يفكر, يستخدم عواطفه ولا يستخدم عقله, يأبى الثقافة التي تنمي فيه الفكر, وتخاطب العقل, وترفع فيه من درجة الوعي.


أما مؤسساتنا التعليمية فقد تخلت عن دورها التربوي, حيث أصبحت تهتم بالجانب التعليمي على حساب الجانب التربوي, وبالجانب الكمي على حساب الجانب الكيفي, مما جعلها مؤهلة لتخريج جحافل من حاملي الشهادات غير المحصنين بالثقافة التربوية, مما جعل كثيرا منهم يستهتر بقيمنا الحضارية وأصالتنا, ويعزف عن تاريخنا بكل إنجازاته ورموزه. أما اهتمامها بالجانب الكمي على حساب الجانب الكيفي فقد نتج عنه كثرة المتخرجين من حاملي الشهادات, ولكن مستوى كثير منهم لا يرقى إلى المستوى العلمي المطلوب, فقلما تجد من بينهم من هو مؤهل لأن يكون باحثا أو مبدعا أو مفكرا أو فيلسوفا, وما أحوجنا اليوم إلى مثل هذه الفئة المبدعة.


ولعل ما أسهم _كذلك_ في انحطاط المستوى, هو تأثر مؤسساتنا التعليمية بما يجري في المجتمع من تناقضات, فصارت تتأثر سلبا, ولا تؤثّر إيجابا، هذا إلى جانب القوانين التي تحكم منظومتنا التربوية, والبرامج التي تقدم من خلالها, ونوعية المعلم والأستاذ الذي يقوم بالتدريس فبرغم وجود من لهم القدرة والكفاءة من رجال التربية والتعليم، فإن منهم كذلك من هم دون مستوى, وأغلبهم يحتاج إلى إعادة تأهيل. فكيف تنتظر منهم تكوين جيل ناجح مؤهل في تعليمه وحياته؟ ففاقد الشيء لا يعطيه.


فوضع مؤسساتنا التعليمية هذا أسهم في انحطاط الثقافة العلمية والتربوية، التي تحصن التلميذ والمعلم والطالب والأستاذ والمؤسسة، من أي ثقافة أخرى هدامة, وتسهم في تغيير المجتمع وتنويره من ثقافة الدجل والشعوذة.


ضف إلى كل هذا فإن مؤسساتنا الإعلامية _برغم الدور الخطير الذي تلعبه_ قد ظلت دون المستوى المطلوب, ولم تكن أحسن حالا من المؤسسات الثقافية والتعليمية الأخرى.


فلم تعط تلك المؤسسات للثقافة الجهد أو المساحة الإعلامية التي تستحقها, وحتى ما كانت تقدمه عرضا لم يكن كافيا, وكانت هي المسئولة في كثير من الأحيان على تجسيد الرداءة وتشجيعها من خلال تغطيتها لما هو غث ومبتذل ودخيل, يسهم في فساد الذوق, وانحطاط الثقافة الأصيلة الفاعلة, أكثر ما يساعد على إثرائها وإنمائها. فلو أنها اهتمت بالثقافة قدر اهتمامها بالسياسة والرياضة, لكانت حققت ما لم تستطع المؤسسات الثقافية تحقيقه ولو أنها اهتمت بالمثقف قدر اهتمامها بالسياسي والرياضي, لما وصلنا إلى ما نحن فيه, لأن الاهتمام بالمثقف يعني الاهتمام بالثقافة.


ويوم أن تصل وسائل إعلامنا إلى تغطية الحركة الثقافية ونشاطات المثقفين وتسخر جزءا من إمكاناتها البشرية والمادية لخدمة الثقافة, مثل ما تفعل مع الرياضة ونشاطات الرياضيين, على سبيل المثال, نقول يومها إن إعلامنا بخير, فقد بدأ يسير في الاتجاه الصحيح.


والحديث عن الثقافة يعني الحديث عن المثقفين بانتماءاتهم المختلفة, إما إلى الثقافة الأصيلة- من الأصل- أو الثقافة الدخيلة, فأغلبهم لم يخرج عن دائرة التبعية والتقليد إلى طريق الإبداع والابتكار والتجديد, لأن الفئة الأولى ظلت تتغنى بأمجاد الماضي وتعيش أحلامها من خلاله, محاولة استحضاره في كل موقف, لتقيس الشاهد على الغائب لتحقيق رغبة عجزت عن إدراكها في الواقع المعيش, دون أن تستلهم العبرة من الماضي وتأخذ منه كل ما هو أصيل وفعال, تتبناه وتضيف إليه من حاضرها لتنطلق في بناء مستقبلها, لا أن تعيش على الذكرى, وتحاول إعادة ما مضى ولن يعود, وحتى ما حاولت أن تضيفه من ثقافات أخرى كان عن غير وعي, بحيث لم تنتق فلم ترتق.


أما الفئة الثانية, فظلت, كذلك, تتغنى بثقافة الغرب, وما حققه من تطور وتقدم, فتبنت لغته وثقافته محاولة تقليص المسافة بين المجتمع الذي تعيش فيه والمجتمعات الغربية, ولكنها فشلت, لأنها لم تكن تمثل من ثقافة الغرب إلا الجانب الشكلي, وما لفظته تلك الثقافة, ونسيت هذه الفئة أن أصول التقدم والتطور, لا تهدى أو تؤخذ انتسابا, وإنما تنبت إنباتا وتؤخذ غلابا. فكم من مجتمع تبنى لغة الغرب وثقافته يعيش اليوم فقرا مدقعا, وتخلفا مفزعا, والأمثلة على هذا كثيرة ( بعض دول آسيا وإفريقيا), وكم من مجتمع طور لغته, وحقق ذاته, وسخر إمكاناته هو ينافس الغرب اليوم, إن لم يكن قد تجاوزه في كثير من الأمور, وبعض دول آسيا دليل على ذلك.


إلا أنه يمكن أن نستثني من الفئتين السابقتين مجموعة من مثقفينا, استطاعت أن تبرز بإنتاجها الجيد, وطرحها الجاد, في الميادين الفكرية والعلمية والأدبية, وأثبتت وجودها على الصعيد الوطني, والعربي, وحتى العالمي, إلا أن هذه المجموعة لا تمثل القاعدة وإنما تمثل الاستثناء, لأنها قليلة إذا ما قيست بالفئتين السابقتين, ومع قلتها, فمنها من يحاول التنفس بصعوبة في جو الرداءة الثقافية التي نعيشها اليوم, وفي ظل الأوضاع التي تعرفها مجتمعاتنا, وفي ظل ظروف اجتماعية ومهنية صعبة, ويحاول بالرغم من ذلك أن يقاوم ليدحض الرديء بالأصيل, في ظل أوضاع سائدة, وقيم مبعثرة, ومفاهيم مشوهة مغروسة, ومذاهب غامضة مجلوبة, وشعارات مضللة رائجة تتطلب جميعها صراعا فكريا وكفاحا نفسيا. وهذه المجموعة كأنها اتبعت المثل الذي يقول: لا تخش السير ببطء ولكن احذر التوقف. ومنها من هاجر داخليا وخارجيا؛ أما الهجرة الداخلية, فنحو الانزواء والانطواء والاستسلام للأمر الواقع, بعدما همّش عن قصد أو غير قصد, وبعدما شعر بالعجز اتجاه المجتمع, وعدم الانسجام معه, واتساع الهوة بين أوضاع المجتمع الراهنة وما يتمناه ذلك المثقف, فجعله هذا يعيش نوعا من الاغتراب النفسي أو الغربة الداخلية. وهذا النوع من المثقفين يصدق عليه قول أبي حيان التوحيدي ((أغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه)).


أما من هاجر إلى الخارج, فهروبا من واقع اقتصادي واجتماعي وثقافي لا يشجع على الاستقرار أو التواصل ولا يحقق للمثقف ما يحلم به في مجتمعه أو بلده. فاختار الهجرة نحو مجتمعات تقدر المثقف الجاد, وتهتم بقدراته, وتسخر له الوسائل والإمكانات التي يحقق بها ذاته, والتي لم يستطع أن يتحصل عليها في بلده, مجتمعات تحفظ للثقافة مكانتها, وتضعها على رأس أولوياتها, ولكن الهروب يبقى هروبا, ولا يحل مشكلة المثقف, فهو علاج مؤقت لا يدوم. ولكن قبل أن نلوم الهارب يجب أن نلوم الذي دفعه للهرب.


هذه هي وضعية ثقافتنا ومثقفينا كما نراها اليوم بشكل مجمل _ وقد يكون لغيرنا رأي آخر محالف أو مخالف _ وهي بلا شك نتيجة سياسة ثقافية متبعة أثبتت فشلها وعقمها. وإذا أردنا أن ننهض من كبوتنا وأن نصحو من غفوتنا, ينبغي أن نعيد النظر في سياستنا الثقافية, وأن نبحث عن مشروع ثقافي جلي المعالم واضح الرؤى يسهر المثقفون على إنجازه ويشرفون على تنفيذه, وحتى يتحقق ما نتمناه, نقول لمثقفينا ما قاله شكسبير ((إن الليل الذي لا يعقبه فجر لليل طويل)) وما تقوله الآية الكريمة:((إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)).


أليس الصبح بقريب؟



                                                                                 وكل عام وأنتم وثقافتنا بخير.








                                                                                                                  د. الشريف عمر ميهوبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق