الثلاثاء، 18 سبتمبر 2012

الكتابة فعل إنساني وحضاري


الكتابة فعل إنساني وحضاري


في البدء كانت الكلمة وكان الإنسان، وكانت اقرأ وكان القرآن، وكان الحرف ناطقا بالبيان.

فتحية إلى كل من اخترق هدأة الصمت، وأضاء سديم السمت، فعانق الحرف عناقا أبديا، وحاوره حوارا سرمديا.

تحية إلى كل من عانق الحرف أخرسا فأنطق، وعانقه جرحا فأورق، وعانقه باهتا فأشرق، وعانقه صدئا فأبرق، وعانقه زاهدا فأغدق.

تحية إلى من حولوا الأبجدية إلى شموع تنير دروب هذه الأمة في ليلها المدله
م، ومنارات تهدي التائهين في بحرها المرتطم.

تحية إلى كل من حولوا يباب الأرض العربية إلى خضيلة ندية غناء ترقص فيها السنابل وتغني على رباها البلابل.
تحية إلى كل من عزفوا لحنها الأبدي فشكلوا منه سيمفونية وجودها المتناغمة.
بداية هناك الكتابة بمفهومها العام؛ التي تعني شكلا من أشكال التعبير، وهناك الكتابة التي تعني الإبداع الفني الذي له شروط وضوابط فنية تقيده. وهذا التحديد يوجه مسار النقاش ويضعه في إطاره الصحيح.
والكتابة في هذا الموضوع ليس أمرها هينا، و أعتقد أنه لا يوجد من يملك إجابة يقينية في هذا الشأن. فوصف حالة الكتابة كوصف حالة السعادة أو الفرح أو الحزن، أو وصف الإحساس باللذة؛ فكلها حالات وأحاسيس تعجز الكلمات عن وصفها، حالات وأحاسيس تعتري الإنسان جسما وروحا يشعر بها ويعجز عن التعبير عنها؛ يخونه اللسان ويتخلى عنه البيان.
ولذلك أعلن عجزي منذ البداية عن الكتابة في الكتابة، وما أكتبه هو تعبير عن بعض الرؤى والتجارب؛ مثلي فيها مثل من يريد وصف عمق البحر ورحابته من الشاطئ، فهل يستطيع؟
الكتابة في جوهرها فعل إنساني وحضاري؛ تعددت أشكاله ومضامينه، فمنذ أن رُسِّم الإنسان في هذا الكون إنسانا، ووهب العقل والنطق والبيان، وهو يبحث عن نفسه ووجوده، وعلاقته بكل ما يحيط به من بني جنسه، ومن أشياء ومخلوقات وظواهر طبيعية، يبحث عن حقيقة وجوده وحقيقة ما يحيط به. فكانت الدهشة وكانت الحيرة وكان التساؤل وكان التفاعل، وأعقب كل ذلك الالتحام فالانسجام فالكلام، فكان التعبير وكان التصوير وكان التسطير، وبدأ الإنسان رحلة التنوير والبيان.
والكتابة نوع من الإبانة عن النفس والوجدان، وعن علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالكون وما وراء الأكوان.
والكتابة رؤيا وموقف في الحياة ومن الحياة، وهي تفاعل وانفعال، وتشاغل وانشغال، وتفتُّح وانفتاح, وانقباض وانشراح, وإحجام وإقدام.
والكتابة بوح بالشكوى والأنين، والغربة والحنين؛ هي دعوة مفتوحة ليشاركك الآخرون.
والكتابة سفر للهوى عناق أبدي عشق أزلي، صبابة لوعة لذة احتراق ووجد, مخاض ووجع متجدد.
والكتابة اختراق لسطوة الزمان والمكان، استباق لموت أو حياة الإنسان،اختراق لجدار الألفة والعادة والنسيان.
والكتابة هي رؤيا لا رؤية؛ هي عالم بلُّوري شفاف تعيد بناءه خارج رتابة الزمان والمكان والإنسان, هي عالم من المرايا ولأطياف والألوان القزحية.
والكتابة هي حضور في غياب وصحوة في غفوة، هي عالم من أحلام اليقظة والمنام، هي ومضة ودفقة شعورية. 
والكتابة رحلة أشبه برحلة الصوفي؛ فهي نوع من المكابدة والارتقاء والزهد، فحين تحين لحظة الكتابة يتحول المبدع من إنسان عادي إلى إنسان فوق العادة، يخرج من عالم الحواس والمحسوسات إلى عالم يصنعه الخيال والرؤى، ولحظة انتهاء الكتابة يعود من لحظة الصحو إلى لحظة الصحو مرورا بلحظة الغفو.
والكتابة هي حالة ذاتية شعورية؛ يمتزج فيها الوعي باللا وعي، والشعور باللا شعور، والمعقول باللا معقول، والذاتي بغير الذاتي، والداخلي بالخارجي، والوجود باللاوجود. فهي ولادة فنية يمتزج فيها كل ذلك.
والكتابة هي تناصٌّ وتقاطع بين تجربتك وتجارب الآخرين؛ الغابرين والحاضرين والمنتظرين. هي أن تعيش تجارب الآخرين، وأن تستحضر الآخرين في تجربتك.
والكتابة مسؤولية ملقاة على عاتق الكاتب؛ لأن الكلمة كالرصاصة إذا خرجت فعلت فعلتها ولن تعود، فهي سلا ح ذو حدين؛ فقد يكون حاميا وقد يكون داميا.
فالكلمة هي البذرة الأولى في نشأة الثقافات، وهي اللبنة الأولى في بناء الحضارات. فالكلمة هي التي تمهد الطريق للحضارة. يقول الأديب التشيكي (فرانس كافكا ): ( إن الكلمات هي التي تمهد الطريق للأفعال وتثير انفجارات الغد).
والكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها).(إبراهيم/24)
هذا بعض مما أتصوره عن الكتابة، وبعض مما أشعر به وقت الصبابة؛ قد يمثل بعضا من الإجابة، وقد لا يمثل شيئا عن الكتابة.

                                                  مع خالص تحياتي لكل المشاركين
                                                  
                                                                                             الشريف عمر ميهوبي







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق