الجمعة، 21 سبتمبر 2012

عريف من عرفاء هذه الأمة ... مصلح وإصلاح


          بسم الله الرحمن الرحيم


               عريف من عرفاء هذه الأمة


  الشيخ المصلح والقاضي/محمد الدراجي ميهوبي


  أحد رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين


            (1906 - 1963م)


 ما أسهل أن نبني بلدا،وما أصعب أن نبني ولدا، فكيف ببناء لا يستثني أحدا.


        سيدي الشيخ كما كنت دوما في صغري أردِّد، ولم أكن أدري إلا في كبري أنّك ممجد، فأقبلت لمعرفة أخبارك ولم أتردد، لعلّي أراك في نفسي تتجدد، أو أراك في شخصي تتمدد، ولكنّي وجدت نفسي أمام خصال فيك تتعدد، فبأيّها أصفك أو استشهد، أبالحمد؟ فأنت وارثه منذ كنت تتمهد. فأنت من عائلة حمدها في كل جيل يتجدد، منذ النبي محمد (ص)، إلى جدك ابن القاسم أحمد، إلى والدك المبارك محمد، إليك، يا من في هؤلاء تتمدد، فالحمد فيك غير مكتسب بل أصل تولّد.
أم أصفك بالعلم؟ فأنت في قومك عالم أوحد، أم أصفك بالمروءة والشجاعة؟ فأنت فيها تتفرد، أم أصفك بالجهاد؟ فجهادك في الظلم والظالمين تعدّد، رفعت رايتين للجهاد ولم تترد، رفعت راية الجهاد الأكبر وكلك اشتعال وتوقد، تبيد الظّلام في ربوع الأوراس وبالظالمين تتوعّد، ورفعت راية الجهاد الأصغر وأقسمت ألا تعود حتى تنتصر أو تستشهد، فكان الظلام على يديك وأيدي أمثالك قد تبدّد، وكان النّصر على يديك وأيدي العظماء أمثالك قد تولّد، فمن أنت يا من على الظّلم تمرّد؟
أنت يا ابن فاطمة ومحمد، أنت من اسمه في ربوع بلادي تردّد، أنت من سمِّيت باسم سيّد المرسلين أحمد، ليستقيم حالك وبهديه تحيا وتسعد، ولتغرف من معينه وتتزوّد، ولتقيم الذِّكر وتتهجّد، وتجمع الصفوف وتوحِّد، وتكون عونا على الحق ترعى وتتعهّد، وتدحض قلاع الشرك والمشركين تكبِّد، فمن أنت يا محمد؟
         في ليلة من ليالي السّدم من سنة 1906م، فتحت الحضنة عينها ولم تنم، لتخرج من خضرائها تبتسم، فاستقبلتك الدّنيا وليلنا لم ينصرم، فتحت عينيك في قرية تكوَّن مجدها منذ القدم، وفي أولاد سيدي أحمد بلقاسم وضعت أوّل القدم، فكنتَ لأبيك كالشّمعة في العتم، أب زاده الكفاف والعفاف، لا يملك من متاع الدّنيا سوى مصحف ولحاف، ودواة وقلم، وترتيل للقرآن زينه النغم. ينبعث من زوايا بيت محتشم، يشّنف سمعك ويجري في عروقك مجرى الدّم، ومن هنا بدأت الصّورة ترتسم، فورثت عن أبيك المصحف والدواة والقلم، ونبغت في حفظ القرآن ولم تبلغ الحلم، ولا عجب فمن شابه أباه فما ظلم، فوالدك كان في قومنا كالعلم، ويشهد المصحف الشريف الذي خطه بيده الكريمة والقلم، فهو رمز في حياتنا محفوظ في قلوبنا، وبغيره لم يكن الإرث ليتم.
         وبعد أن أعطى الوالد الولد، ما يكفيه مددا، شدّ ساعده ومدّ إليه اليد، متمنيا له النجاح والسؤدد. ودّع حينها محمد بن الخامسة عشر الأهل والبلد، وشدّ الرحال إلى طولقة منحردا، جاعلا زاويتها مقصدا، فظل عاكفا يتعبّد في محرابها سنتين أضاف إليهما أربعا، فكانت لرسوِّه مرفأ، ولحرمانه ملجأ، ولدفئه منبعا، ولأنسه مربعا، ولزاده مرتعا، ولفكره مرجعا. رام انتسابها، فطرق أبوابها، ودرج أعتابها وألِف اجتذابها، وقرأ كتابها وحاز لبابها، وعرف إعرابها، وملأ حيّزا من رحابها، فلا هي ضنّت بصحبتها، ولا هو ملّ اقترابها، فما تحصيله العلمي إلا ثمرة من اكتسابها.
         وبعد أن اتّضحت المعالم شدّ الرحال، وبالجامع الأخضر ألقى عصا الترحال، حيث التحق بجمعية العلماء تحدوه الآمال، وصدق معهم عهدا لذي العزة والجلال، أن يلتزم بالطريق القويم دون إبدال، وأن يكون على أعداء الأمة شديد المِحال، مهما كانت الظروف والأحوال، فالتحم بالجمعية ذات السّنا والجلال، ولامس تلألأ ابن باديس بين الرفاق فأبهرته الخصال، ورأى بعينيه كريم الخلال، فأقبل يتزود في كل مجال، فما أعظم هؤلاء الرجال:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواتَبْدِيلاً }الأحزاب23.
       وهنا فتحت له الأبواب، وتمكن من الانتساب، وتهيأت له الأسباب فتشجع على التحصيل والاكتساب؛ ففي الجامع الأخضر ارتسمت الخطى، وتشكلت الرؤى، وتحققت المنى، استقبله طالبا، وشرف بالخروج منه بعد أربع سنوات معلما، فاختاره ابن باديس ليقوم بمهمة التدريس، في جامع سيدي قموش بقسنطينة، وقد دام ذلك ثلاث سنوات، كما عين عريفا على الطلبة الوافدين من منطقة الحضنة(أولاد دراج). وضعت فيه الجمعية ثقتها فكان أهلا لتلك الثقة، فاجتهد في رد بعض من فضائلها وجزء من جمائلها.
          وجاء يوم الفصل إن يوم الفصل كان ميقاتا، فالنهوض بالأمة وإعدادها يتعدى الساعد واليد، فما أسهل أن نبني بلدا، وما أصعب أن نبني ولدا، فكيف ببناء لا يستثني أحدا. أية مهمة أنيطت بعرفاء هذه الأمة، فهل كانوا حقا عرفاء بمواطن الداء في جسد أمة أصابها البلى، أمة كليمة، ذاكرتها عقيمة، تعاني السقم وتشتكي العقم، حالها آنذاك كحال شخص مشلول، فاقد الذاكرة، فلا قوة تدفعه إلى الحراك، ولا ذاكرة تعينه على الإدراك.
          قدرك يا محمد أن يواكب ميلادك أحداثا وطنية، وأحداثا كونية، لترضع مع الزمان لبانه، قدرك أن تفتح عينيك على الحياة، فإذا بمستعمر على صدر أمتك جاثم، وعدو مكابر غاشم، قدرك أن تفتح عينيك على الحياة فإذا الحياة مغتصبة، وعلى أرض فإذا هي مستلبة وعلى وطن أطرافه ملتهبة، وعلى أمة دماؤها منسكبة، تنتظر ما يلوح في الأفق، من انبلاج الفجر إلى الشفق، ترجو من أبنائها ما يرجوه المدلج الحيران في الغسق، لايحمل إلا دقات قلب مشفق، يستعيذ برب الفلق، من شر ليل محدق، لا يأمل إلا في غد مشرق. فما أشبه اليوم بالبارحة مع الفارق.
       وبعد أن تسلحت بسلاح العلم والمعرفة حملت هموم وطن جريح، وأمة صار وجودها في مهب الريح، فانبريت لمهمة الجهادين، تحمل قلما وبندقية، وراية وطنية ولسانا لا يكل عن محاربة الجهل والأمية، وبعث الروح الوطنية، تحارب عدوين؛ عدو الإنسان، وعدو الأوطان، فأما عدو الإنسان فهو الجهل وروافده، وكل ما ينضوي تحت شعار ((اعتقد ولا تنتقد)) الذي جعل الإستبعاد سمتا معلوما، والاستعمار قدرا محتوما وهنا المهمة لا تحتاج إلى طبيب يخفف الآلام، ويسكن أوجاع العظام، بل تحتاج إلى جراح ماهر باستطاعته معالجة الأعضاء المريضة دون انفصام، أو تعويضها بأخرى سليمة إن حتم المقام، حتى يكون الجسم كله على ما يرام؛ وفي هذا تشهد لك المساجد بل العيادات الروحية على الدوام، فقد كنت تعالج فيها أمراض المجتمع المزمنة وكل سقام، بدءا بقسنطينة فالأوراس الذي طال فيه المقام، مرورا بالحضنة، فالبويرة، فبجاية، إذ كنت تسابق الأيام، بل فكل منطقة كنت تنزل فيها تشهد لك يا إمام.
          وأما عدو الأوطان فهو الاستعمار الذي غصب الأرض والعرض، واستغل العباد والبلاد، وجثم على صدر هذه الأمة طويلا طويلا، فكتم الأنفاس وفتح الأحباس، ونكل بالناس وتمكن من الإندساس، وتحين كل فرصة للفتك والافتراس، ولم يكن يعرف من لغات الخطاب إلا لغة الرصاص، فما كان من عرفاء هذه الأمة إلا أن يقفوا على حمايتها كالحراس، وأن يخاطبوا عدوهم بلغتين لا ثالث لهما، لغة القِرطاس، ولغة القُرطاس.
       ومع اشتعال نار الثورة في ساح الفداء، التحق بطلائع المجاهدين دون انثناء فحملته الثورة مسؤولية القضاء، وما أخطرها مسؤولية في هذا الفضاء، تحملها في سنوات الثورة بكل عزيمة ووفاء؛ حيث عين سنة 1956م مسؤولا للعدالة والتحكيم في منطقة الحضنة ( بالضبط من مدينة المسيلة إلى مدينة بريكة) فأدى الأمانة دون انحناء، كما كلف برئاسة اللجنة المحلية إلى جانب الإشراف على لجنة العدالة والتحكيم بمسقط رأسه عين الخضراء، كما أسند له على مستوى القسمة الأولى ( بريكة – نقاوس- رأس العيون) ومستوى القسمة الثالثة مسؤولية القضاء، وكان كل ذلك بين ( 56 – 1962م).
          وما حُمِّل (محمد الدراجي ميهوبي) هذه المسؤوليات إلا لكونه من العرفاء بمواطن الداء، ومن العلماء العارفين المشهود لهم في علوم العربية وعلوم الشريعة ، خصوصا في مجال النحو العربي ومجال الفقه الإسلامي، ومن العلماء العاملين في مجالي الدعوة والإصلاح؛ حيث قضى أكثر من ربع قرن في تعليم الإنسان وبنائه إلى جانب الفصل في شؤون الناس وقضاياهم، كل ذلك شكل له زادا علميا ورصيدا عمليا وثراء معرفيا. فكانت آراؤه وأحكامه محل احترام وقبول والتزام من الجميع ، كما كان يحتكم إليه في القضايا التي لا يفصل فيها في قسمات ونواحي أخرى، وذلك لكونه المؤهل الوحيد لهذه المهمة في تلك المناطق، وأخص بالذكر منطقتي الأوراس والقبائل.
بسم الإله اقرأ فذاك نداء
                                   فالكون أول آيه الإقـــراء
اقرأ تكشف دونك الأرجاء
                             وتنجلي من غيبها الأشــياء
يا من وهبت بعض أسرار الخليـ
ـ                              قة بح بسرها و إن إفشـاء
ولكن اخش الظن ((إنما يخـ
                          ـشى الله من عباده العلماء))
إن الدنا إذا ربت بحورها
                           فالسائسون لها هم العــرفاء
كن هاديا وقائدا فأنت بعـ
                                 ـد الله ثم المرسلين لواء
            وقد سعى الاستعمار كثيرا في سنوات الثورة للقبض على(محمد الدراجي) فذهب سعيه هباء، وحاول أن يوقع به طوال تلك السنوات لكن الله سلم وشاء، فعمد إلى الانتقام من أسرته والتنكيل بالأهل والأبناء، لكنه لم يستسلم لذلك حتى لاح فجر الاستقلال بالضياء، فخابت آمال فرنسا وتحقق أمل الأجيال على يد العظماء، من مفجري الثورة وصانعي العزة والكبرياء، ومع بداية الاستقلال نادته السماء، أن التحق بموكب الصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفقاء، فكأنه عز عليه أن يفارقهم فقدر له أن يجاورهم دون عزاء، بعد أن سلم المشعل ورحل سنة 1963م ليكون مع ورثة الأنبياء.
          هذه قصة درب طويل تحكي سيرة عالم جليل، ومجاهد سليل شعب أصيل؛ رفض العبودية والتكبيل، وتحدى الموت والتقتيل، وأقسم بأعظم تنزيل، أن يحسم أمره ولو بعد أمد طويل، وأن يبدد ظلام الليل، فكان الحسم –بعد سبع طواها عددا، ومن أرواحه أعطاها مددا- نصرا وسؤددا.
فرحمك الله يا محمد الدراجي، وطيب ثراك، فلتقر عينك، وأعين العظماء من الرجال أمثالك، ولا نامت أعين الجبناء، ولا نامت عين الجلاد.
         فقد كان هؤلاء للسلف خير أحفاد، لهم حضور في كل ناد، يجوبون البلاد ويعشقون صهوات الجياد، ويصنعون الأمجاد، ويكملون رسالة الأجداد، ويرفعون راية الجهاد، ويحققون النصر في كل واد، متى دعوا كانوا في الميعاد، ومتى استنصروا كانوا هم الرواد، شريعتهم النصر والاستشهاد، خلعوا عنهم ثوب الحداد، ومتى استنصحوا لا يجانبهم رجحان أو سداد، فهم عن شرفهم دوما ذُوُّاد، فهم منذ خلقوا أسياد فانصف يا تاريخ حماة البلاد، واحفظي يا أجيال هذا الحصاد، واسلكي سبيل الرشاد، فالله بصير بالعباد. 
                                               والسلام على كل من حمى البلاد.

                                                                                    الدكتور/الشريف عمر ميهوبي

هناك تعليق واحد: