السبت، 13 أكتوبر 2012

التماسك النصي في القرآن الكريم



                                                  د. الشريف ميهوبي
التماسك النصي في القرآن الكريم
بعض صور الاتساق والانسجام من النص القرآني

هذه نماذج من وصل المفردات والجمل، مختارة من النص القرآني، تبرز مدى التماسك والانسجام والتناسب الذي يحدثه الوصل،  بين مفردات اللغة وجملها.
ومن ذلك التناسب والانسجام ما يلاحظ بين مفردات هذه الآيات:
قال تعالى:{قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}(الأنعام/ 162).   وقال:{ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله} (البقرة /285). 
وقـال: { زيِّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث} (آل عمران/ 14).
يلاحظ مدى التناسب والانسجام، الذي أحدثه الوصل بين الأسماء، في الآيات السابقة. حيث جاءت منسجمة، متناسبة، مرتبة حسب درجتها وأهميتها. سواء في الآية الأولى بين: الصلاة والنسك، والمحيا والممات. أو في الآية الثانية بين: الله والملائكة والكتب والرسل. أو في الآية الثالثة بين: حب النساء، والبنين، والمال، والخيل، والأنعام، والحرث. وهذا عطف بين الأسماء.[1]
أما الصفات  - بشكل عام  فإنه لا يعطف بينها إلا إذا كان بينها تضاد،  ومن ذلك:
 قوله تعالى:{هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم}(الحديد/3) فصفات: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، عطفت على بعضها؛  لأنها صفات متضادة.
والجمع بين الأسماء أو الصفات، والترتيب بينها، وتقديم بعضها على بعض لايكون اعتباطا،  بل يكون من ورائه حكمة أو علة ما،  ولا يكون ذلك إلا وفق منهج فني دقيق، وهذه بعض الأمثلة على ذلك:

            فقد تتقدم الكلمة لشرفها وعلو منزلتها كما في قوله تعالى حين قدم اسمه في الأمر بالطاعة:

{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم}(النساء/59)
وكمافي ترتيبه لمن أنعم عليهم، في قوله:
{ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدقين والشهداء والصالحين وحسن أوليك رفيقا}(النساء/69)

          وقد تتقدم الكلمة لتقدمها في الزمن أو العمل، كما في قوله تعالى:

{وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان}(آل عمران /3- 4) فالتوراة قبل الانجيل، والإنجيل قبل الفرقان في الترتيب الزمني.

         وقد تتقدم الكلمة بحكم رتبتها العددية، أو للارتقاء بالعدد من القليل إلى الكثير، كما في قوله تعالى:

{ فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع }(النساء/3).[2]
ومن جمال التناسب والانسجام، كذلك، في عطف الجمل بالواو قوله تعالى:
{ إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت}     (الانفطار/1 – 4).
فهذه الأمور كلها عطف بعضها على بعض بجامع يجمعها، وهو كونها من أمارات القيامة.
ومن ذلك قوله تعالى:
{إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال سيرت، وإذا العشار عطلت، وإذا الوحوش حشرت، وإذا البحار سجرت، وإذا النفوس زوجت، وإذا المؤودة سئلت، بأي ذنب قتلت، وإذا الصحف نشرت، وإذا السماء كشطت، وإذا الجحيم سعِّرت، وإذا الجنة أزلفت} (التكوير/ 1 – 13).
ومن ذلك قوله:
{ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت} (الغاشية/ 17 – 20).
وذلك كله ربط بين الجمل عن طريق العطف بالواو، وهو ربط حقق تناسبا وملاءمة وانسجاما بين جمل الآيات السابقة. فجاءت متماسكة متراصة، كحبات العقد المتلألئة، وقد زاد من جمال تألقها وانسجامها، التناسب الموسيقي الأخاذ بين فواصل آيها. وما أكثر هذه الصور في نصوص القرآن الكريم.

         ومن أسرار عطف الجمل بغير الواو، يمكن التمثيل بقوله تعالى:

{ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاما، فكسونا العظام لحما، ثم أنشأناه خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين} ( المؤمنون/ 12 – 14).
فقد استخدم في عطف الآيات السابقة على بعضها أداتا العطف ( ثم ) و(الفاء) وقد وقف (العلوي) عند ذلك الاستخدام، وحاول كشف بعض الأسرار المعنوية للعطف بهاتين الأداتين من خلال تلك الآيات، حيث يقول:
(( فتأمل هذه الآية، كيف بدأ بالخلق الأول، وهو خلق آدم من طين، ولما عطف عليه الخلق الثاني الذي هو خلق التناسل، عطفه بثم، لما بينهما من التراخي، وحيث صار إلى الأطوار التي يتلو بعضها بعضا على جهة المبالغة، عطف العلقة على النطفة بثم، لما بينها من التراخي، ثم عطف المضغة على العلقة بالفاء، لما لم يكن هناك تراخ، ثم عطف خلق العظام من عقيب كونه مضغة بالفاء، من غير مهلة ولا تلبُّث، ثم عطف كسونا العظام لحما بالفاء من غير تراخ، ثم تسويته إنسانا بعد خلق العظام  بثم، إشارة إلى التراخي، ثم قوله فتبارك الله أحسن الخالقين، عطفه بالفاء دلالة على أن كل عاقل خرق قرطاس سمعه نظم هذه الآيات، وتأليفها، فإنه يَقضَى العجبَ على الفور من غير تلبُّثٍ، وينطق باللفظ الدال على الزيادة في الحكمة والدخول في الاتقان))[3]. فتبارك الله أحسن الخالقين، على حسن خلقه، وحسن تأليفه، وبديع نظامه.

ويمكن أن نضيف إلى وقفة العلوي، التي حاول من خلالها كشف الأسرار البلاغية، في استخدام أداتي العطف ( ثم ) و(الفاء)، من خلال الآيات القرآنية السابقة، ما نراه جديرا بالذكر في العلاقة بين الجمل الثمانية، التي تتضمنها تلك الآيات. فالعطف هو وصل وربط، والربط بين هذه الجمل لا يقتصر - في رأينا - على أداتي العطف ( ثم ) و (الفاء)، بل تعداه إلى روابط أخرى، منها؛ إعادة الذكر عن طريق الضمير أو اللفظ الذي قوى لحمتها، وجعلها كالجملة الواحدة، التي تعبر عن قصة خلق الإنسان بأطوارها المتعددة، فنجد الفعل مع فاعله"خلقنا" قد تكرر أربع مرات، يضاف إلى ذلك أن هذه الأفعال: خلقنا، كسونا، أنشأنا، يربط بينها فاعل واحد جاء بصيغة الجمع "نـا"، وهذا يعطي دلالة على حضور الذات الإلهية، وقدرتها على الخلق والتحويل، ثم نلحظ الربط بين الإنسان وأصله في كل طور من الأطوار التي مر بها، حيث ذكر الإنسان في الجملة الأولى، وأعيد ذكره في الجملة الثانية عن طريق العائد؛ وهو الهاء في (جعلناه)، وتم ربطه بأصله وهو (النطفة)، وأعيد ذكر النطفة في الجملة الثالثة، وربطها بالعلقة، وأعيد ذكر العلقة في الجملة الرابعة، وربطها بالمضغة، وأعيد ذكر المضغة في الجملة الخامسة، وربطها بالعظام، وأعيد ذكر العظام في الجملة السادسة، ثم أعيد ذكر الإنسان عن طريق العائد في "أنشأناه" وربطه بالخلق الآخر في الجملة السابعة، وكانت الجملة الثامنة تتويجا لما جاء في الجمل السابقة، وانبهارا بقدرة الخالق التي تعبر عنها قصة خلق الإنسان بأطوارها المتعددة.
وارتباط الجملة الثامنة بما قبلها لم يكن عن طريق الفاء فقط، بل عن طريق إعادة اللفظ في ( الله ) حيث تحول ضمير الفاعل ( نا ) إلى الفاعل نفسه، وهو التفات من الحضور إلى الغياب، أو من المتكلم إلى الغائب. وكذلك في ( الخالقين ) حيث أعيد ذكر اللفظ بعد تحوله من الفعل إلى اسم الفاعل. واسم الفاعل يكتسي صبغة الديمومة، فهو خالق في كل زمان ومكان إلى يوم الدين، يضاف إلى كل ذلك أن الجمل السابقة كلها جاءت خبرية، وأن الجملة الأخيرة جاءت إنشائية تعجبية، لتكون محطة أخيرة في هذه السلسلة العجيبة الأطوار،  ليعبر من خلالها القلب والعقل عن الاندهاش والانبهار من عظمة الخالق،  ويلهج اللّسان بذكره؛  فتبارك الله أحسن الخالقين، على حسن خلقه، وحسن تأليفه،  وبديع نظامه.[4]ويضاف إلى كل ذلك أن أداة التعريف "أل" لها دور مهم في الربط إذا كانت عهديه وكان مصحوبها معهودا ذكريا، وقد يسد الضمير مسدّ ها مع مصحوبها.[5]  وهذا ما نلحظه من دورٍ لـ "أل" العهدية في ربط الجمل في الآيات السابقة ( نطفة - النطفة، علقة – العلقة،  مضغة – المضغة، عظاما – العظام ). وهكذا نجد أن تلك الجمل  عبارة عن سلسلة مترابطة الحلقات تُسلِمنا كل الحلقة إلى الحلقة التي تليها. وبين تلك الحلقات روابط وعقد متينة لا تنفصم عراها، ولا ينهار بناها، ولا يعتريها الضعف، ولا يخالطها اللّبس. فالأمر إذن لا يتوقف عند مجرد تكرار رابط سياقي (ثم، والفاء) فحسب.[6]

إلى جانب ما سبق، يمكن إبراز مدى الترابط والالتحام، الذي تحدثه الإحالة مع بعض أدوات الربط الأخرى، من خلال الآية التالية:
قال تعالى:{لحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنّور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} (الأنعام/1)
                الآية السابقة اشتملت على مجموعة من الإحالات والروابط،  وهي تتكون في الأصل من سبع جمل جاءت مترابطة متراصة، جعلتها أدوات الربط كالجملة الواحدة، وقد تنوعت أدوات الربط في هذه الآية، من حروف الجر، إلى الموصول، إلى العطف، إلى الضمير، إلى المطابقة؛ كما هو مبين على الشكل الآتي:
1- الحمد لِلَّهِ: حرف الجر ((لـِ)) الذي حمل الحمد وأوصله لله، والنحاة والبلاغيون يدرجون حروف الجر ضمن أدوات الربط والوصل، والجملة هنا جملة اسمية.
2- الذي خلق السموات: وأصلها: الله خلق السموات؛ فتحول لفظ الجلالة (الله) إلى اسم موصول، ليوصل الجملة الثانية بالأولى، ويربطها بلفظ الجلالة فيها، حتى تكون الجملة الثانية صفة تابعة للمسند في الجملة الأولى، فتصير وكأنها على هذا النحو: ( الحمد لله الخالق) أي الذي خلق، ويلاحظ هنا دور الموصول في الربط. وجملة الموصول – كما يرى بعض النحاة – جيء بها للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل. يضاف إلى الرابط الموصولي الربطُ عن طريق المطابقة بين الفعل وفاعله في النوع والعدد والشخص.
3- و(خلق) الأرض: ثم ربط هذه بسابقتها عن طريق واو العطف وحذف الفعل فيها لفظا، ولكنه مراد من ناحية المعنى، وقد دل عليه الفعل في الجملة المعطوف عليها، والحذف جائز في العربية إذا دل عليه دليل مقامي أو مقالي.
4- وجعل الظلمات: وقد ربطت هذه الجملة بما قبلها عن طريق العاطف وهو الواو، إضافة إلى الربط عن طريق المطابقة بين الفعل وفاعله، الذي هو (الله).
5- و(جعل) النور: والرابط فيها هو واو العطف، وقد عطف على الجملة السابقة، ويلاحظ أن الفعل لم يذكر في هذه الجملة، كما في الجملة الثالثة، لدلالة الفعل المذكور عليهما في الجملة الرابعة والجملة الثانية.
6- ثم الذين كفروا بربهم يعدلون: وهي تتكون من جملتين؛ جملة الصلة (كفروا)، وجملة الخبر (يعدلون) وكأنه قال: ثم بعض عباده كفروا بربهم وأشركوا به، وعلاقة هذه الجملة بالجمل السابقة تختلف؛ فالجمل السابقة جاءت متسلسلة ومترابطة عن طريق واو العطف وتحمل دلالة واحدة، وهي إظهار قدرة الخالق التي توجب له الحمد على ما خلق وما قدم لعباده، وقد أُخْرِجت الجملة الأخيرة مما سبقها فعُطِفت بـ (ثم) ولم تُعْطف بالواو، لأنها لو عطفت بالواو لخرج المعنى عن مراده، ولأدى ذلك إلى الإيهام بخلاف المقصود، وكأن الله هو الذي جعل من كفروا يعدلون عن عبادته، تعالى الله عن ذلك.
وقد أخرجت الجملة الأخيرة بما تحمل لتكون في مقابل ما سبقها من جمل وما تحمل؛ أي مقابلة ما قدمه الخالق بجزاء من جحدوا، ومقابلة الإحسان بالإساءة، ومقابلة الحمد والشكر بالكفر والشرك، فتبًّا لمن جحدوا نعم الله. و( ثم ) العاطفة في هذه الآية – يبدو – أنها خرجت عن المعاني التي تؤديها؛ وهي: التشريك في الحكم، والترتيب، والمهلة؛ فهي لم تشرك ما بعدها في حكم  ما قبلها، ولا ترتيب بين ما عطفته وما عطفت عليه، والمهلة والتراخي هنا لا يستدعيها مقام الآية، لأن الجملة المعطوفة تتحدث عن الذين كفروا في كل زمان ومكان.
والمقارنة بين استخدام (ثم) في هذه الآية ، واستخدامها في الآية السابقة( المؤمنون/ 12 – 14) يوضح الفرق بين الاستخدامين في تأدية المعنى، وقد اجتمعت لـ (ثم) المعاني الثلاثة؛ التشريك في الحكم، والترتيب، والمهلة، في هذه الآية: { وبدأ خلق الإنسان من طين ، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، ثم سواه ونفخ فيه من روحه } (السجدة/7 – 9) . وهذا بخلاف استخدامها في آية (الأنعام/1)، وقد أشبهت فيها( ثم ) ما جاء في قوله تعالى: { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم} (التوبة/ 118).
ويرى الأخفش والكوفيون أن (ثم)  في الآية الأخيرة ليست عاطفة البتة، وأنها جاءت زائدة.[7]
ويمكن أن تكون (ثم) في قوله تعالى (ثم الذين كفروا) لترتيب الإخبار لا ترتيب الحكم،  ولا للمهلة، إذ لا تراخي بين الإخبارين؛ الخلق، والكفر، أو يكون هناك تقدير؛ أي: ثم من بعد هذا كله يشرك الذين كفروا بربهم . فيكون ربطها هنا ربطا سياقيا بين إخبارين،  مدعما بالربط عن طريق إعادة الذكر (بربهم)؛ أي بذكر الظاهر الذي يكون أحيانا أقوى في الدلالة من الضمير. فـ (بربهم) ماهي إلا إعادة ذكرٍ للفظ الجلالة (الله) في بداية الآية.
يقول العكبري في إعراب هذه الجملة الأخيرة من الآية: (( قوله تعالى: (بربهم) الباء تتعلق بـ (يعدلون) أي الذين كفروا يعدلون بربهم غيره، والذين كفروا مبتدأ، ويعدلون الخبر، والمفعول محذوف. ويجوز على هذا أن تكون الباء بمعنى عن، فلا يكون في الكلام مفعول محذوف، بل يكون يعدلون لازما: أي يعدلون عنه إلى غيره، ويجوز أن تتعلق الباء بكفروا فيكون المعنى: الذين جحدوا ربهم ما ئلون عن الهدى)).[8]
         




[1] - انظر: من بلاغة النظم العربي 2/ 150– 151 
[2]  - انظر: السابق 2 / 152 – 153 .
[3]  - الطراز للعلوي  2/ 44 – 45 .
[4]  - انظر: نظام الربط في الجملة العربية، طرقه وأدواته (دكتوراه دولة- جامعة قسنطينة) د. الشريف ميهوبي، ص159-160.
[5]  - انظر: مغني اللبيب لابن هشام، تحقيق: د.مازن المبارك، ومحمد علي حمدالله، دار الفكر، بيروت، ط5/ 1979م،72.
[6]  - انظر: نظام الربط في الجملة العربية، طرقه وأدواته 160.
[7] - انظر: السابق 158.
[8] - إملاء ما من به الرحمن للعكبري ج1/ 234.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق