الجمعة، 26 أكتوبر 2012

يا أرضُ جُودِي ... قصيدة وتعليق


                  يا أرضُ جُودِي*

بِدَرْبِ الْمَنَايَا تَنَامَى وُجُودِي
                وَفِي رَاحَتَيْهَا رَسَـمْتُ خُلُودِي
وَمِنْ وَحْيِهَا قَدْ كَتَبْتُ نَشِيدًا
                     يُرَدِّدُهُ الْكَوْنُ  يَحْكِي صُمُودِي
أُصَارِعُ مُذْ كُنْتُ دَهْرًا عَنِيدًا
                     بِكِبْرٍ وَصَمْتٍ كَصَمْتِ العُهُودِ
أُعُانِقُ حَـرْفًا وَسَيْفًا وَحُلْمًا
                        أَشُـقُّ مَدَايَا أُجَلِّي حُـدُودِي
أَجُوبُ زَمَاني أَجُوبُ مَكَاني
                     وَفِي كُلِّ شِبْرٍ تَعَالَتْ  رُدُودِي
خُيُوليِ تَطَالُ السَّحَابَ خُطَاهَا
                     تَدُكُّ حُصُونَ الزَّمَانِ الْقَـعُودِ
تُدَوِّي الْفَضَاءَ صَهِيلاً وَرَكْضًا
                     وَتَسْبَحُ فيِ مَلَـكُوتٍ  شَـرُودِ
وَتَمْضِي سِـرَاعًا إِلىَ مُبْتَغَاهَا
                     كَوَمْـضٍ تَـلأْلأَ  لَيْلَ رُعُـودِ
يَشُقُّ سَـنَاهُ بَهِيمَ اللَّيَاليِ
                     وَيَرْسُمُ فَـجْرًا بِصَحْنِ الْوُجُودِ
يُضِيءُ الدُّنَا مِنْ وَرَاءِ الْغَمَامِ
 
                    كَغَيْثٍ أَهَلَّ فَيَا أَرْضُ جُـودِي
فَيَا أَرْضُ جُودِي فَيَا أَرْضُ جُودِي                   
                   فَيَا أَرْضُ جُودِي فَيَا أَرْضُ جُودِي

وَتَمْضِي السِّنِينُ بِعُمْرِي تِبَاعًا             
                            وَيُـورِقُ دَرْبِيَ بَـعْدَ جُـحُودِ
                           
                                                                الشريف عمر ميهوبي
 *إلى أرضنا العربية التي حوِّلت إلى أرض يباب، أُلجِمتْ خيولها عن معانقة السحاب، وعوَّض فيها دقَّ الطبول عزفُ الرَّبَاب، وجُعِلتْ رحلتُها رحلةَ سفر بلا إياب، فهل يورقُ الدَّربُ بعد طول غياب.



هل هي أرض جود؟!        الدكتور/ صبري أبوحسين:

      قصيدة ميهوبية عن( أرضنا العربية التي حوِّلت إلى أرض يباب، وأُلجِمتْ خيولها عن معانقة السحاب، وعوَّض فيها دقَّ الطبول عزفُ الرَّبَاب، وجُعِلتْ رحلتُها رحلةَ سفر بلا إياب). يمتزج فيها الذاتي بالجماعي، في قالب من بحر المتقارب التام، المصرَّع المطلع، ذي القافية الدالية المكسورة الروي، الموحية بانكسار شمل الجميع:خاصًّا وعامًّا.
 جاءت فيه مفردات عجيبة وتعابير جديدة،وتصاوير بديعة، مثل(دَرْبِ الْمَنَايَا)(َصَمْتٍ كَصَمْتِ العُهُودِ) (أُعُانِقُ حَـرْفًا وَسَيْفًا وَحُلْمًا) (أَشُـقُّ مَدَايَا)(أَجُوبُ زَمَاني أَجُوبُ مَكَاني )(خُيُوليِ تَطَالُ السَّحَابَ خُطَاهَا)(الزَّمَانِ الْقَـعُودِ) (صَحْن الْوُجُودِ)....
ويأتي التكرار في قوله:

فَيَا أَرْضُ جُودِي فَيَا أَرْضُ جُودِي                   
                   فَيَا أَرْضُ جُودِي فَيَا أَرْضُ جُودِي
ليعلن عن نفثة شاعرنا المصدور، التي يحس بها كل عربي، فأرض العروبة ملأى بالخير، جديرة بالعطاء، ننتظره صباح مساءَ!!!! لكن لا جود، لا عطاء. جودها فقط: بطالة، عِمالة، غلاء، حصار، تجويع، تركيع، فساد، تخريب للكنوز...!!! ولذا استحقت أن تكون نكرة(أرض) جلدًا لها، وأن تؤمر(جودي) حثًّا ورجاءً وأملاً....
ثم كان الختام:
وَتَمْضِي السِّنِينُ بِعُمْرِي تِبَاعًا             
                  
وَيُـورِقُ دَرْبِيَ بَـعْدَ جُـحُودِ
الذي أحس أنه غير المتوقع، وأن هذه القصيدة حبلى بقصائد!!!
وأن سؤال الشاعر الشريف في ذيله التوضيحي:
 فهل يورقُ الدَّربُ بعد طول غياب؟!!
يحتاج إلى إجابات شاعرية من شاعرنا الأشعر في إبداعه شكلاً ومضمونًا!!

مراوغة النص :         عبد الحافظ بخيت:
      يرى البعض أن النص الشعرى البسيط يفقد دهشته لدى المتلقى ولذته الجمالية والقائلون بهذا الرأى متأثرون بفكر أصحاب مدرسة (براغ) ورائدها (دو سوسور) الذى يرى أن اللغة فى النص لا تكون قريبة حتى تحدث الدهشة عند المتلقى وهذا قول يبدو براقا فيه حلاوة لكنها حلاوة لا تحمل من سكرها أي شيئ فالجرجانى فى أسرار البلاغة يرى أن اللغة السهلة أوقع فى النفس من اللغة التى تستعصى على الفهم.
والمتأمل فى هذا النص يبدو له أن الشاعر اختار بساطة التركيب الأسلوبى والمفرده السهلة وأظن أن هذا النص البسيط نص مراوغ فهو على بساطة تركيبة يحمل معاني عميقة ودلالات شعرية متفجرة وإذا اتفقنا أن عنوان النص هو بوابته الشرعية للدخول إلى المعنى المركزى فى النص فإن العنوان أيضا يشبه سدى الحائك يظل يتوالد داخل النص إلى أن يكتمل المعنى المركزى ويصبح العنوان متنا ومتن النص حاشية للعنوان وهذا متحقق فى نص الشريف عمر يا أرض جودى والعنوان هو خطاب الى الأرض مصحوب برجاء فى أن تجود ولكن الشاعر وضعنا فى حيرة أية أرض يقصد؟ وأي جود منها يريد؟ هل هى الأرض العربية أم الأرض بشكل عام؟وهل يريد منها أن تجود بالمطر؟أم بالحياة؟ أم بالثورة؟وهنا  يصبح النص إجابة عن هذه الأسئلة القلقة التى ولدها عنوان النص فالشاعر يريد أمطار الثورة التى تفجر الأرض نيرانا تطهر فيها البشر مما علق بهم من غبار العفن والذل والخنوع ( خيولى تطال السحاب خطاها/
       تدك حصون الزمان القعود/ وتمضى سراعا إلى مبتغاها/كومض تلألأ ليل رعود/ يشق سناه بهيم الليالى/ ويرسم فجرا بصحن الوجود/يضيئ الدنا من وراء الغمام/ كغيث أهل فيا أرض جودي) فالشاعر الذى فقد مكانا لخيوله المقاتلة فى الأرض يذهب إلى السماء/ مصدر الغيث مرتفعا فوق العهود فيضيئ الكون بومضه الثورى ليرسم للوجود فجرا جديدا يضيئ الدنا مثل الغيث الذى يضيئ وجه الأرض وهنا لابد أن تجود الأرض التى تحمل ما يلقى إليها، تجود بإنسان جديد وعهد جديد هذا العهد الذى يرسمه الشاعر فى أحلامه(أعانق حرفا وسيفا وحلما /أشق مداى أجلي حدودي)والسيف والحرف والحلم هم أدوات الشاعر التى تجلي حدوده وتدفعه إلى أن يمطر الأرض بعلمه وفكره وشجاعته وقدرته على التغيير، ولابد للأرض أن تستجيب للتغير، والأرض بوصفها مكانا لا مكانا جغرافيا وإنما هى مكان رمزى لعب دورا هاما فى تعميق المعنى الشعرى.
     من هنا يصبح النص على بساطته تفجيرا لوجدان الشاعر داخل وجدان المتلقى لأن بساطة الخطاب الشعرى للنص تجعل الوجدانين متساويين وهنا يتجلى معنى المراوغة الشعرية داخل النص تحية للشاعر الجميل الواعر والواعى لفنه.
يا قصيدة جودي:
 أشكر الأستاذين الفاضلين على قراءتيهما للقصيدة، وهما قراءتان تستحقان التنويه لما أضْفَتاه من ظلال وأبعاد،  تقتربان  حينا، وتتقاطعان أحيانا، وتتجاوزان  حينا  آخر  رؤى  صاحبها. ويفترض أن يكون الأمر كذلك؛ لأن النص؛ أي نص _ على  حد تعبير الأستاذ عبد الحفيظ بخيت_ مراوغ لايكشف عن نفسه من أول وهلة، مما يتيح تعدد القراءات أومحاورة النص على أكثر من صعيد. ولو كشف النص عن نفسه، أوكان وحيد القراءة، لما استحق أن يعيش  أكثر  من لحظة  ميلاده. فالنص ينبغي  أن يكون  محورا مستقطبا  لرؤى  متعددة  تسير  في فلكه  يمنحها  الدفء  والانتماء، وتمنحه الإشراق والوضوح. 
    وقراءة الأستاذين: صبري أبو حسين _ وعبد الحفيظ بخيت، للقصيدة السابقة أكدت ذلك؛ فكلاهما نظر إليها من الزاوية التي تعكس رؤياه للحياة وللوجود من حوله؛ فكانت مستقطِبة  ومستقطبَة، ومستكشَفة و مستكشِفة. فهناك تقاطع بين صاحب النص ( المنتج الأول له) وقارئ النص (المنتج الثاني له) في بعض الرؤى.   ولاأخفيكما أني استمتعت بالقراءتين وعدت إلى اكتشاف القصيدة من جديد.
    واسمحا لي أن أعيد بعض ما يلفت الانتباه فيهما:
    يقول الدكتور صبري :
(يمتزج فيها الذاتي بالجماعي، في قالب من بحر المتقارب التام، المصرَّع المطلع، ذي القافية الدالية المكسورة الروي، الموحية بانكسار شمل الجميع:خاصًّا وعامًّا. جاءت فيه مفردات عجيبة وتعابير جديدة.
ولذا استحقت أن تكون نكرة(أرض) جلدًا لها، وأن تؤمر(جودي) حثًّا ورجاءً وأملاً....
ثم كان الختام:                     وَتَمْضِي السِّنِينُ بِعُمْرِي تِبَاعًا             
                              
وَيُـورِقُ دَرْبِيَ بَـعْدَ جُـحُودِ

الذي أحس أنه غير المتوقع، وأن هذه القصيدة حبلى بقصائد!!!
وأن سؤال الشاعر الشريف في ذيله التوضيحي:
 فهل يورقُ الدَّربُ بعد طول غياب؟!!
يحتاج إلى إجابات شاعرية من شاعرنا الأشعر في إبداعه شكلاً ومضمونًا!!)
*    *    *   
   النهاية غير متوقعة فعلا وكان يفترض فيها أن تكون على الشكل التالي:
وَتَمْضِي السِّنِينُ بِعُمْرِي تِبَاعًا   أيُـورِقُ دَرْبِيَ بَـعْدَ جُـحُودِ
أي أن تكون النهاية مفتوحة؛ عبارة عن تساؤل لا نملك له إجابة. ولكن يقينا منّا بأن هذه الأرض معطاء ولود, وسيورق دربها ولوبعد جحود، فغلبت الواوُ الهمزة َ والإجابةُ التساؤلَ فجاءت:   وَيُـورِقُ دَرْبِيَ بَـعْدَ جُـحُودِ _  أملا ورجاء .
وبعض مفاتيح النص يحملها الإهداء: (إلى أرضنا العربية التي حوِّلت إلى أرض يباب،  أُلجِمتْ خيولها عن معانقة السحاب، وعوَّض فيها دقَّ الطبول عزفُ الرَّبَاب،  وجُعِلتْ رحلتُها رحلةَ سفر بلا إياب،    فهل يورقُ الدَّربُ بعد طول غياب)
   
                  *  *   *      
 ويقول
الأستاذ عبد الحفيظ بخيت، وما أعمق قوله، فهو يبدع حين  يكتب_  وقد  كسبنا  حقا  ناقدا  يجمع  بين  أصيل  الماضي  وحداثة الحاضر-:
( والمتأمل فى هذا النص يبدو له أن الشاعر اختار بساطة التركيب الأسلوبى والمفرده السهلة وأظن أن هذا النص البسيط نص مراوغ فهو على بساطة تركيبة يحمل معاني عميقة ودلالات شعرية متفجرة وإذا اتفقنا أن عنوان النص هو بوابته الشرعية للدخول إلى المعنى المركزى فى النص فإن العنوان أيضا يشبه سدى الحائك يظل يتوالد داخل النص إلى أن يكتمل المعنى المركزى ويصبح العنوان متنا ومتن النص حاشية للعنوان وهذا متحقق فى نص الشريف عمر يا أرض جودى والعنوان هو خطاب الى الأرض مصحوب برجاء فى أن تجود ولكن الشاعر وضعنا فى حيرة أية أرض يقصد؟ وأي جود منها يريد؟ هل هى الأرض العربية أم الأرض بشكل عام؟وهل يريد منها أن تجود بالمطر؟أم بالحياة؟ أم بالثورة؟وهنا  يصبح النص إجابة عن هذه الأسئلة القلقة التى ولدها عنوان النص فالشاعر يريد أمطار الثورة التى تفجر الأرض نيرانا تطهر فيها البشر مما علق بهم من غبار العفن والذل والخنوع ( خيولى تطال السحاب خطاها/
       تدك حصون الزمان القعود/ وتمضى سراعا إلى مبتغاها/كومض تلألأ ليل رعود/ يشق سناه بهيم الليالى/ ويرسم فجرا بصحن الوجود/يضيئ الدنا من وراء الغمام/ كغيث أهل فيا أرض جودي) فالشاعر الذى فقد مكانا لخيوله المقاتلة فى الأرض يذهب إلى السماء/ مصدر الغيث مرتفعا فوق العهود فيضيئ الكون بومضه الثورى ليرسم للوجود فجرا جديدا يضيئ الدنا مثل الغيث الذى يضيئ وجه الأرض وهنا لابد أن تجود الأرض التى تحمل ما يلقى إليها، تجود بإنسان جديد وعهد جديد هذا العهد الذى يرسمه الشاعر فى أحلامه(أعانق حرفا وسيفا وحلما /أشق مداى أجلي حدودي)والسيف والحرف والحلم هم أدوات الشاعر التى تجلي حدوده وتدفعه إلى أن يمطر الأرض بعلمه وفكره وشجاعته وقدرته على التغيير، ولابد للأرض أن تستجيب للتغير، والأرض بوصفها مكانا لا مكانا جغرافيا وإنما هى مكان رمزى لعب دورا هاما فى تعميق المعنى الشعرى.
     من هنا يصبح النص على بساطته تفجيرا لوجدان الشاعر داخل وجدان المتلقى لأن بساطة الخطاب الشعرى للنص تجعل الوجدانين متساويين وهنا يتجلى معنى المراوغة الشعرية داخل النص تحية للشاعر الجميل الواعر والواعى لفنه.)
الشريف عمرميهوبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق