الأربعاء، 17 أكتوبر 2012

في البدء كانت الكلمة



في البدء كانت الكلمة

بالكلمة نبدأ، وعن الكلمة نتحدث ، وعلى مرفئها نرسو،  وفي دفئها نحيا ونسمو، وتنبجس أحلامنا وتصفو، وتتحرك  نفوسنا وتهفو، وتكبر آمالنا وتحدو، وتتفتق أفكارنا وتنمو...
       فما أحوجنا إلى دفء الكلمة المعبرة، والفكرة الأصيلة الصادقة، في شتاء الثقافة، فعسى هذا الدفء أن يتسرب ليجوس خلال مدينتنا ، فيذيب طبقات الجليد المتراكمة ، فتبزغ شمس الأمل لتغمرنا بدفئها وحرارتها، فيعود الدفء وتعود الحياة ، وتعود الطيور المهاجرة، ترنو  وتزهو وتصدح في سماء مدينتنا، معلنة عودة الحياة ، عودة الكلمات المهاجرة، المهاجرة في ذواتنا، عودة الأفكار الشاردة، عودة الروح المسافرة.
       فليعد الجميع ليتعانق، فليعد الجميع ليخترق جدار الصمت، فليعد الجميع إلى مدينتنا الفاضلة؛ مدينة مكتوب على بابها " اقرأ " يقدر فيها العلم ويجل العلماء، وتحترم فيها الثقافة ويبجل المثقفون، مدينة تفتح بابها لكل محترف للكلمة أو هاو لها.
         إنها مدينة المثل والقيم والمبادئ التي افتقدناها، والتي ينشد الوصول إليها كل ضال في دروب حياتنا المقفرة؛ التي صار يطبع واجهتها، هوس المادة وهاجس الاكتساب، والتدني قي حمأة الشهوات ونزغ الغرائز، حياة استتر فيها الضمير وغاب العقل وتحجر الفكر، فصار التقهقر سمتا معلوما والتبعية قدرا محتوما.
       ستظل حياتنا هكذا إذا لم نحي العقل ونشغل آليات التفكير ونعد للكلمة صدارتها ودورها في كل شان من شؤون حياتنا. فإذا أردنا الوصول فعلينا الاستثمار في العقول، فالاستثمار في أي شيء مفيد مهم، ولكن الاستثمار في العقول شيء أهم ، والاستثمار في المهم والأهم لا يمر إلا عن طريق القلم. فسبحان الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم.
فالكلمة هي البذرة الأولى في نشأة الثقافات، وهي اللبنة الأولى في قيام الحضارات. فالكلمة هي التي تمهد الطريق للحضارة. يقول الأديب التشيكي (فرانس كافكا ): ( إن الكلمات هي التي تمهد الطريق للأفعال وتثير انفجارات الغد(
والكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها).(إبراهيم/ 24)
والكلمة الأصيلة لا تنجب إلا ثقافة أصيلة، والثقافة الأصيلة لا تنجب إلا فكرا أصيلا ، والفكر الاصيل لا ينجب إلا أفكارا أصيلة؛ وهذه بدورها لا تنجب إلا مجتمعا أصيلا؛ في تفكيره ، في سلوكه، في عاداته وتقاليده، في علاقاته ومعاملاته، في ذوقه الحضاري، في كل شيء يتصل بحياته؛ مجتمعا وطيد التمكين سامق البناء، يتسم بالانسجام والتضام والالتحام؛ مجتمعا يربط أصيل الماضي بأصيل الحاضر من أجل استشراف المستقبل، والعمل على تحديد معالمه وتأسيس بنيانه وتوطيد أركانه؛ مجتمعا لا يتنكر لماض تليد ، ولا يتعصب لحاضر جديد؛ مجتمعا مبدؤه الاعتدال وحسن الجدال.
يقول أحد العلماء المعاصرين: ( ليس الجديد الحق مبتور الصلة بالقديم منكرا له  منسلخا عنه، ولكنه إضافة لبعض جوانبه، واستكشاف لغوامضه وتنوير وإضاءة لكثير من معمياته، والجديد الذي لا يعتمد على قديم، ولا يستمد  استمراره من أصوله، ضرب من القفز العشوائي في الظلام ، قد لا يفيد شيئا، إن لم يكن تدميرا لكل شيء)
فالكلمة الصادقة الأصيلة إذاً،  بكل ماتحمله من معان وأبعاد ثقافية وحضارية هي التي تسهم في ترقية الفكر وبناء الثقافة.
 ولا أجد تصورا شاملا لوظيفة الثقافة وأهميتها في المجتمع أفضل من تصور _ مالك بن نبي _ لها؛ حيث مثل وظيفتها في المجتمع بوظيفة الدم في الجسم: (( فهو يتركب من الكريات الحمراء والبيضاء وكلاهما يسبح في سائل واحد من " البلازما" ليغذي الجسد. والثقافة هي ذلك الدم في جسم المجتمع؛ يغذي حضارته، ويحمل أفكار "الصفوة" كما يحمل أفكار "العامة" ، وكل من هذه الأفكار منسجم في سائل واحد من الاستعدادات المتشابهة والاتجاهات الموحدة، والأذواق المتناسبة((
فأهمية الثقافة في حياة الشعوب كأهمية الدم لحياة الإنسان ؛ فهي التي تكون شخصية الفرد والأمة، وتحصنها من الذوبان و الانحلال، و تعطيها القوة و المتانة ، وتحميها من الانحراف .والثقافة  هي أخيرا كلمة.     
د. الشريف عمر ميهوبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق